التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 02:53 م , بتوقيت القاهرة

الطريق إلى عاصفة الحزم: 4- السعودية

في البداية أحب أن ألفت النظر إلى الفارق بين التحالف الاستراتيجي، المبني على مصالح مشتركة، وبين الاتفاق والاختلاف السياسي والمجتمعي والثقافي.


تمتلك السعودية أموالا طائلة منذ طفرة البترول، وتمتلك جيشا قويا، لكنها لم تحاول أن تقيم أنظمة تشابهها مذهبيا. هناك طبعا تأثير سعودي على الجوار، لكنه تأثير يشبه الأواني المستطرقة. بأي معنى؟


السعودية كدولة ليست نشطة في تحويل أنظمة مجاورة إلى أنظمة مشابهة. هذا يختلف تماما عن إيران. التي لديها قنوات عربية أكثر من قنواتها الفارسية. إنما التأثير السعودي يحدث بحكم الأمر الواقع. الثراء، استقبال العمالة، وبالتالي ارتباط مصالح "فردية وجماعية" بها. كل هذه عوامل تجعل لدولة ما تأثيرا ثقافيا على ما حولها، يطلقون عليها "القوة الناعمة" حتى لو كانت بالنسبة لك مسامير وأشواكا.


ألا تلجأ السعودية إلى تنشيط جماعات جهادية؟


بلى، تفعل. ولكن غالبا ردا على هجوم يضرب مصالحها وليس بغرض نشر مذهب معين، والدليل أن الدول المحيطة بالسعودية لا تشبه السعودية، وأن حلفاء السعودية الإقليميين - كعائلة الحريري - لا يشبهون السعودية.


نشطت جماعات جهادية في أفغانستان ضد الغزو السوفييتي. وفعلت ذلك في العراق ضد التمدد الإيراني. وتفعل ذلك في سوريا أيضا، ويبدو أنها ستزيده قريبا، هكذا نفهم من مغازلة جمال خاشقجي، الإعلامي الذي يقول في قنوات سعودية أنه ينقل عن مقربين من القصر الملكي، للإخوان المسلمين، وتلميحاته ضد مصر. مغازلة تعفي السعودية من أي التزام رسمي، لكنها تحقق لها غرضا.



السعودية الرسمية تتوجس من جماعة الإخوان المسلمين أكثر من توجس مصر منها. كما أنها تنكوي بنار الجماعات الجهادية التي دعمتها لأسباب "استراتيجية" مثلها مثل غيرها. وأدعي أنها تدعمها وهي تعرف ذلك، لأنها توازن بين الفعل وعدم الفعل استراتيجيا، فتجد أنها ستستفيد، وأنها ستعاني، لكنها ستستطيع تحمل المعاناة. القرارات الاستراتيجية ليست أبيض وأسود، بل معظمها في منطقة الرماديات.


هذا بعد استراتيجي، لا علاقة له برأيك ورأيي السياسي والثقافي في النظام السعودي نفسه، أو بعدنا وقربنا عن عادات وتقاليد المجتمع السعودي نفسه.


أوجز القول بأن النظام السياسي السعودي مشغول بدفع الجوار إلى الانشغال عنه (جريدة الحياة نموذجا) أكثر من انشغاله بشغلهم به. وهذا على خلاف إيران تماما، كما بينت في الحلقة الأولى من هذه السلسلة. تخيلي مقارنة بين موقف السعودية حين قصفت أمريكا طالبان، وموقف إيران لو فعلت أمريكا الشيء نفسه مع حزب الله. وأيضا استرجعي الفقرة السابقة عن علاقة السعودية بالإخوان. سينبئك هذا عن الفارق في العلاقة والغرض. الجماعات الجهادية التي تدعمها السعودية لا تقيم معها علاقة عضوية. بل علاقة مصالح منقضية. هذا مهم لنقلنا إلى الفقرة التالية.



الهجمات الإرهابية التي نفذتها القاعدة على نيويورك وواشنطن كان معظم منفذيها سعوديين. وهي منطلقة من أفغانستان التي دعمت السعودية "مجاهديها الإسلاميين" قبل ذلك. ماذا فعلت السعودية؟ لقد شاركت الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب. وكانت هدفا لتلك الجماعات. هذا من جهة.


لكن من جهة إضافية، نسيت أمريكا أنها دعمت مجاهدي أفغانستان وتذكرت أنهم سنة، وأنهم "وهابيون". فتجاوزت اعتبارات أمن قومي سعودية، ولعبت في التوازن الإقليمي. أزاحت نظام صدام حسين، ولم تستطع وقف التمدد الإيراني الذي حل محله.


من الذي شعر بالتهديد؟


نعم، السعودية ودول الخليج. بعد أن كان الوضع على الخريطة يمنح إيران حليفا واحدا هو حزب الله، وحليفا متوازنا بينها وبين الخليج هو سوريا حافظ الأسد، احتفظت إيران بحزب الله، أضافت إليه العراق، وغيرت التوازن السوري بينها وبين الدول العربية إلى انحياز جارف لصالحها، على يد بشار.


لقد اكتملت المظلة الشيعية السياسية فوق الخليج. لا أتحرج هنا من وصفها بالشيعية لأن أطرافها، ما عدا النظام في سوريا، يصفون أنفسهم كذلك. آيات الله يصفون أنفسهم كذلك، وأحزاب الله - على اختلاف تسمياتها - تصف نفسها كذلك. كل منهم فوق رأسه عمامة سوداء تسد عين الشمس. كل منهم يتحدث عن استرداد "الشيعة" حقهم التاريخي المغصوب. كل منهم يتحدث عن وجوب الجهاد ضد مغتصبي الحق لكي يعود المهدي المنتظر، "صاحب الزمان". لا يمكن تجاهل هذا مهما كنت بعيدة أنت نفسك عن الطائفية، لأنك تتعاملين مع خصم طائفي، أو متخف خلف الطائفة، هذا أمر واقع.


لقد كان هذا مصيبة فوق رأس دول الخليج والسعودية حتى عام 2003. لكنه صار كارثة عام 2005. الحلف الإيراني السوري اللبناني ارتكب حماقة اغتيال رئيس الوزراء السني، حليف السعودية، رفيق الحريري. فكأنما أعلن الحرب.



لا بد من فهم هذا لكي نفهم التخوف السعودي من النظام الإيراني، والتشدد السعودي ضد النظام السوري، والحاجة السعودية إلى حشد "عقائدي" يواجه الحشد الشيعي.


منذ 2011 إلى اليوم اعتبرت السعودية أن هذه كارثة لا تزال في الملعب، داخل خطوطه الحمراء، وبالتالي تستطيع فيها أن تستخدم الحرب بالوكالة، بشكل أساسي في سوريا. ولا سيما أنا السعودية كانت مشغولة باحتمال انهيار حليف آخر، هو مصر، وخروجه من المعادلة. كما كانت منشغلة بتحييد اليمن في الصراع بالوصول إلى اتفاق تتوافق عليه القوى اليمنية جميعا.


لا أظن أنني محتاج إلى الإضافة. لا أشك أن الفكرة وصلت. ما فعله الحوثيون في اليمن - بعيون سعودية - يتجاوز المصيبة والكارثة. يتجاوز الخطوط الحمراء. يتجاوز محاولتها لتحييد اليمن بإرضاء كل قواه والوصول إلى توافق بينها كما ظنت. ويتجاوز الحروب بالوكالة إلى الحرب على باب البيت.


كل ما ذكرته في المقالات الأربعة السابقة له غرض واحد فقط، مصر. كيف تتصرف، كيف تتحرك، كيف تتخذ قرارها بما يحقق مصلحتها، لا يوجد على هذه الأرض قرار ليس مصحوبا بالمخاطر. لكنه ميزان من الخسائر والمكاسب والطموحات. غدا نعود إلى مصر.