التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 01:20 م , بتوقيت القاهرة

في خضم العاصفة.. تخوفات مشروعة

???الزمان: في يوم ما من أيام صيف 2011 لا أتذكر التاريخ تحديدًا، لكن المؤكد أنه كان قبل شهر أكتوبر، لماذا مؤكد؟ لأنني أتذكر جيدا أن هذه الحادثة وقعت قبل سقوط العاصمة الليبية طرابلس أو تحريرها، لا أدري الآن أيهما أدق، ربما كنت جازمة في حينه، وهذا يعني أيضًا أنه قبل مقتل العقيد  الليبي معمر القذافي.

المكان: القاهرة، مدينة نصر تحديدا.

دعتني صديقة ليبية مقربة لحضور ندوة أعدها مجموعة من مناصري الثورة الليبية المتواجدون بالقاهرة في ذلك الوقت للحديث عن التطورات الجارية في ليبيا، والجرائم المرتكبة بحق الليبيين من قبل نظام معمر القذافي، ودون التطرق بالطبع لجرائم وتجاوزات الناتو، وكانت هي أحد المنظمين إن لم تكن أهمهم ومتحدث رئيس بالندوة.

وبالفعل حضرت وبقيت استمع للمداخلات التي كانت في معظمها تكرارا للكلام ذاته، تعدادا للفظائع والتجاوزات وتبشيرا بمستقبل زاهر وردي بعد استكمال اجتثاث النظام وانتهاء الحرب.

استوقفتني فقط المداخلة الأخيرة، حين تقدّم شاب أربعيني صعد إلى المنصة، أصر على الحديث واقفا، كان يتحدث بنبرة هادئة بخلاف البقية، تحدث حديثا عقلانيا وعبر عن تخوفات مشروعة، أذهلني منطقه، لم يكن لأحد من الحاضرين الذين حاولوا مقاطعته أية فرصة لاستفزازه أو اتهامه بالتعصب، كما كانوا يفعلون عادة مع أي صوت يعارض تدخل الناتو، أو يتحدث عن تجاوزات الثوار، حيث كان يوصم مباشرة بأنه من أنصار النظام أو طابور خامس أو سبتمبري متعصب، وفيما بعد أصبحوا يصفونهم بالطحالب نسبة للون الأخضر الذي يميز نظام معمر القذافي.

فقد كان حديثه هادئا جدا وبحس ونفس وطني، لا يحضرني الآن سوى عباراته وإيماءات جسده وهو يتحدث، وكأنه يعبر عن كلماته بكل جوارحه، كان واضحًا أن الشاب ليس من هذه الجوقة، لكنّه أيضًا كان قد أقر بأن النظام السابق قد انتهى، وأن البلد مقبلة على مرحلة جديدة لا بد من التحسب لها جيدا دون إفراط في التفاؤل، لم يكن ممن قفزوا من سفينة النظام إلى السفينة الجديدة، هكذا استنتجت، بل استطاع أن يبقى متشبثا بسفينة الوطن بيقين أن النظام كان له أخطاؤه وهو يحتضر الآن، لكن الوطن باق ولابد أن نلتف حوله.

تحدث مخوفا من التشكيلات الميليشاوية التي تقاتل بدون قيادة موحدة، تحدث مخوفا من تعدد هذه الميليشيات واختلاف أهدافها فيما بعد قال بالنص: "هؤلاء الآن لا يهمهم سوى شيء واحد وهو إسقاط معمر القذافي، لكن كيف بعد؟ تساءل هل هناك رابط يجعمهم، أم سيعودون كمقاتلي أفغانستان لكل هدفه وسيتصارعون فيما بينهم؟".

تحدث مخوفا من فوضى السلاح، وقال هذا السلاح الذي زُود به الجميع، لابد أن نفكر من الآن كيف سنجمعه، هل ستكون عملية جمعه بالسهولة ذاتها. تحدث أيضا بإشارة سريعة إلى أن بعض المقاتلين في صفوف الثوار تبدو عليهم علامات التعصب، إما من حيث التطرف الديني والانتماء لجماعات متطرفة أو التعصب تجاه مخالفيهم في الرأي، والتعامل مع كل من يمت للنظام السابق بعنف وتجاوزات حقوقية وقانونية لا تقل عن الفظاعات المتهم فيها النظام.

تساءل أيضًا عن خارطة الطريق والجدول الزمني للمرحلة اللاحقة، وعن ضرورة تجهيز بديل يستطيع لم شمل الوطن في المرحلة اللاحقة، وكلما تحدث أكثر، ارتفعت الأصوات في القاعة مطالبة بإنهائه ويتدخل المنظمون لمقاطعته، لم يعجبهم حديثه، أزعجهم غرد خارج السرب، ظل هو مسترسلا وكأنه لا يسمعهم وكأنه مصمم على إيصال رسالته بأي ثمن، وبالثبات والهدوء ذاته بعيدا عن التعصب، كان واضحًا أنه متخوف بالفعل وقلبه موجوع على الوطن بالفعل، لذا لا يؤاخذهم على تعصبهم، وكأنه كان يقول في نفسه ربما يتذكرون كلماتي هذه فيما بعد، ربما لو حدث ما أتخوف منه يكون ضميري مرتاحا، فقد قلت كل ما لدي، وأشهدت الله أني لم أكن متعصبا لهذا ولا لذاك.

انتهت كلماته، فأمسك رئيس الجلسة الميكرفون ليختم اللقاء، لكن طبعا لم تفته مهاجمة المتداخل بلطف، لطفا روج من خلاله للمستقبل الجميل المشرق، وأن كل هذه التخوفات لا أصل لها وأشار ضمنا أن من يأخذ بهذا الحديث أو يقوله فهو إنما يخدم النظام، ويثبط الهمم ويثير البلبلة، وختم اللقاء كما بدأه بالشعارات. انتهت الندوة إلى هنا.

كنت بالفعل مهتمة بإكمال النقاش مع الشاب، الذي وجدتُ فيه صوتا مختلفا عن كل من حولي، فهم إما متعصبا لنظام وإما منحازا لثورة وردية لا تشوبها شائبة، لم يمهلني الحظ كثيرا تقدم الشاب نحو صديقتي ليشكرها باعتبارها أحد المنظمين، وتبادلا البطاقات الشخصية، وبدوره توجه إليّ محيا بلطف، فعبرت له عن إعجابي الشديد بمنطقه وثباته وحسه الوطني واستشرافه للمستقبل بموضوعية، شاركته شعوري بالتخوف والأمل، توطدت علاقتنا وأصبحنا أصدقاء.

تقريبا أربع سنوات مضت يا صديقي وليبيا على حالها الذي منه خوفت وحذرت مع الأسف، واليوم في بلدي أيضًا جرح نازف أتفاءل وأبث الحماس، خاصة وأن موقفنا من النظام السابق والميليشا وجرائمهما لا تقبل التأويل، لكن تنتابني التخوفات ذاتها وهذه المرة من حولنا نماذج حية يمكن بالفعل أن نصبح مثلها، ويمكن أن نتعلم منها الدرس الآن، الآن وليس غدا، وحينها سنتلافى الأخطاء، فلم لا؟!

تساؤلاتك السابقة يا صديقي لازلت مطروحة يمكن أن نعتبرها نقاطا نسعى لحلها وإيجاد بدائل تجنبنا الأخطار، لكن لدينا أيضا يا صديقي من ُيخوِن صوت العقل والمنطق ويعتبره مثبطا للهمم، لدينا أيضا يا صديقي من يعتبر كل من لا يشاركه التطبيل في جوقته خائنا.