التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 11:42 م , بتوقيت القاهرة

ثقافة الموت وثقافة الحياة

أعجبتني كثيرًا كلمة قداسة البابا تواضروس الثاني في قداس ليلة عيد القيامة، التي تحدث فيها قداسته عن ثقافة الموت وثقافة الحياة، وعقد مقارنة بينهما، جاءت بالتأكيد في صالح ثقافة الحياة، والتي قال عنها إنها المعنى الحقيقي التطبيقي لمفهوم عيد القيامة.. وقد شرح البابا ببساطة وعمق مفهوم "الفصح" أو "العبور" أو (Pass over) من الموت إلى الحياة، وهو ما يُفهم أيضًا على أنه العبور من قيود الجهل إلى حرية المعرفة الحقة.


قد يكون هذا العبور هو الأهم في حياة الأمم كما هو في حياة كل فرد.. فنحتاج أيضًا أن نعبُر من جهل الحرفية وظلامها إلى حرية الروح وانطلاقها.. وبدلا من أن ندنو من كل حرف ونفسر كل نص بحرفية قاتلة بعيدة عن روح النص وملابسات كتابته وسياقه التاريخي والاجتماعي قبل اللغوي، ينبغي أن ننطلق بعيدًا عن الحرف ويتسع عقلنا لحرية الروح والروح هي الحياة.. مما يجعلنا نعبر من الموت إلى الحياة.


ضحكنا طويلا من اعتذار قداسته عن استخدام لفظة (نكدي) وكأنها شتيمة.. إذ كان يتحدث عن مظاهر ثقافة الموت، ومنها أن يكون الإنسان (نكديا)، وأن الشخص الفرِح الذي يشيع جو الفرح والسلام هو صاحب ثقافة الحياة.. هكذا أيضًا الشعوب والأمم، فالأمة التي عبرت إلى ثقافة الحياة يستطيع مواطنوها أن يتعايشوا جميعا في سلام ودون منازعات.. فلا يتنازعون على المرور بسياراتهم واحدا قبل الآخر ولا على (الركن) واحدا قبل جاره، ولا يفكرون بأنانية: أن أعيش وحدي ويموت الآخرون.. لأنهم يعلمون أن هذه ثقافة الموت لا الحياة، وأن ثقافة الحياة هي أن أحيا وأترك الفرصة للآخرين ليحيوا هم أيضا لأنني ببساطة لا يمكن أن أعيش وحدي.


ومن ثقافة الحياة الاستمتاع بالجمال وهي مظهر يميز أيضا الشعوب التي عبرت بعيدا عن ثقافة الموت.. فإذا زرت بلدا يحافظ فيه أهله على جمال بيوتهم من الخارج كما الداخل وجمال شوارعهم وميادينهم وإظهار تميزهم في إبداع، فاعلم أن ذلك الشعب إنما يعيش ثقافة الحياة.. والاستمتاع بالحياة لا يعني أبدا ما اعتقده قدماء الملاحدة من الأبيقوريين الذين قالوا (نأكل ونشرب لأننا غدا نموت).. فمن كلماتهم تعرف أنها ثقافة الموت الآتي عليهم والذي وهم أحياء لا يفكرون إلا فيه.


الاستمتاع بالحياة هنا هو رؤية جمال الكون وروعة جابله.. وهو أن يتمثل المخلوق بالخالق فينشر في الأرض جمالا لا قبحًا.. إذا كنا مازلنا ننظف بيوتنا من الداخل حتى تبدو جميلة لعيوننا فقط ونرمي مخلفاتنا عند ناصية الشارع – أصل الشارع مش بتاعنا – ولا نهتم بأن عيون الآخرين وأنوفهم ستتأذى، فنحن لم نعبر بعد إلى ثقافة الحياة.


للعبور إلى ثقافة الحياة وللقيامة مفاهيم أبدية تتعدى بكثير تفسيرات السلوك اليومي على الأرض؛ ولكن تلك المفاهيم ترتبط حتما بالسلوك اليومي للأفراد وللشعوب.. وثقافة الحياة عند الأفراد والشعوب تنعكس في إيمانهم بالسلام لا الحرب، وبالإقناع لا الإرهاب، وبالتفكير لا التكفير، وبالتعايش لا القتل، وبالإيثار لا الأنانية، وبالمحبة لا الكراهية، وبالإيمان الداخلي الذي ينير من الداخل إلى الخارج وليس المظهرية التي تعكس فراغًا داخليًا مظلمًا.


 العبور هو قيامة الروح والجسد معا من الضعف إلى القوة ومن الظلمة إلى النور ومن الجهل إلى المعرفة ومن ثقافة الموت إلى ثقافة الحياة.. لذا يأتي عيد (شم النسيم) والاستمتاع بثقافة الحياة بعد عيد القيامة مباشرة.


عيد قيامة مجيد لمسيحيي مصر وكل العالم.. وعيد شم نسيم سعيد على مصر كلها مسلمين ومسيحيين.