التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 10:37 ص , بتوقيت القاهرة

التشيع.. عقدةٌ عربية وحلٌ فارسي

لا زالت عقدة الشعور بالذنب تجاه الخليفة علي بن أبي طالب وابنه الحسين وذريتهما تؤرق الشيعة عامةً، والعراقيين منهم على نحو خاص. فالتاريخ يخبرنا أن الخليفة الرابع، الذي اتخذ من الكوفة عاصمةً له بدلاً من المدينة، قد عانى من تقاعس العراقيين في حربه ضد جيوش الشام بقيادة معاوية. ورغم تمكن الأسرة الأموية من الاستئثار بالحكم في الأقاليم الخاضعة للإسلام، إلاّ أن أهل العراق كانوا لا يزالون يحملون تعاطفاً لآل البيت من أبناء علي. ربما لأنهم لم يكونوا مرتاحين لحقيقة أن تصبح الشام، خصم العراق القديم منذ أيام المناذرة والغساسنة، عاصمةً للإسلام. وعندما نجح دعاة الثورة في إقناع الحسين بالخروج على يزيد بن معاوية والمطالبة بالخلافة من الكوفة، بدا أن الأمور تسير سيراً حسناً في سبيل القضاء على حكم الأمويين. لكن الأمويين نجحوا في قمع الثورة في مهدها قبل وصول الحسين إلى الكوفة واعتقلوا وقتلوا كثيرين من شيعته مما أعاد الهدوء للإقليم. وتحتل حادثة مقتل الحسين في كربلاء مكانةً محوريةً في التراث الشيعي (وربما السني أيضاً) تجعل منها ملحمة دينية تطهرية تتجاوز كونها حلقةً مؤسفةً من حلقات الصراع على السلطة. فالشيعة يرون أنهم قد خذلوا حفيد النبي ويحتفلون كل عام بذكرى مقتله إحياءً لهذا التصور.

ولم يكن نمو التشيع المناهض للأمويين في أقاليم العراق دون غيره من الأقاليم الإسلامية مفاجئاً. فالعراق قبل الإسلام كان موطناً للعديد من الهجرات العربية
من شمال الجزيرة وجنوبها. وقد اختلط العرب هناك بالمهاجرين من الأراضي الفارسية التي تدهورت أحوالها بعد سقوط فارس في يد العرب. واختلط هؤلاء وأولئك بالسكان التقليديين للإقليم والذين تعود أصولهم الآرامية إلى بابل القديمة. ويذكر المؤرخون أن الأمويين لم يعاملوا رعاياهم من غير العرب المعاملة التي كانت تلك الشعوب تتوق إليها في ظل الإسلام. فالحكم الأموي كان في مجمله أرستقراطياً ومفضلاً للعنصر العربي على سواه. كذلك اتسم حكم الأمويين بسياسات مالية مرهقة للأقاليم وبنوع من الشدة المفرطة في التعامل مع المعارضة. ولعل في حكم الحجاج بن يوسف للعراق وقمعه لثورة الزبير في الحجاز ما يعضد هذا التصور.

وعندما دخلت الأسرة الأموية في طورها الأخير الناتج عن الترف المبالغ فيه وصراع أمرائها على الحكم فيما بينهم، وجد العباسيون الطامعون في الخلافة في إثارة مشاعر الشيعة الدينية وسيلة طيبةً لتأليب الناس على بني أمية. فأرسلوا دعاتهم في العراق والأقاليم الفارسية ينادون المسلمين إلى البيعة لأحد أحفاد علي بن أبي طالب والثأر للشهداء من أبناء فاطمة الزهراء بنت النبي، والذين سقطوا بسيوف أبناء أبي سفيان الطليق. وقد استجاب أهل خراسان، الإقليم الفارسي الشاسع، إلى هذه الدعوة ربما أكثر مما استجاب العراقيون لها. فوصول آل البيت من نسل النبي إلى الحكم يعني أنهم يحكمون بصفتهم الدينية وليس بصفتهم الجنس المتسيد. كذلك أجادت الدعوة إستثمار مقولة النبي عن سلمان الفارسي "سلمان منا آل البيت" لكسب تأييد الفرس للهاشميين.

ووفقاً لهذا التصور لا يملك العرب أي أفضلية على سواهم من الأجناس سوى أن النبوة والإمامة من نصيبهم، وهو ما كان يعد في نظر الفرس فرصة سانحةً للوصول إلى المناصب الكبرى إذا هم أثبتوا جدارتهم بها؛ وهو ما لم يكن متاحاً بالطبع في ظل الأمويين. كذلك كان توارث الحكم على أساسٍ من الأحقية الدينية متوافقاً تماماً مع التقاليد الساسانية القائمة على الديانة الزرادشتية القديمة، والتي ثُبت أنها لم تُنتزع تماماً من الوعي الفارسي. وهنا يجب التنويه أن العرب الذين فتحوا فارس قد أبدوا تسامحاً كبيراً تجاه الزرادتشية حيث اعتبروا من يدينون بها من أهل الذمة كالمسيحيين واليهود. وهو تسامح لم يحظى به المسلمون المعارضون على أسس سياسية.

وبعد إسقاطهم للأمويين تنكر العباسيون لدعوتهم الأصلية بمبايعة أحد أحفاد علي بن أبي طالب للإمامة واستأثروا هم بها بحجة أنهم أقرب نسباً للرسول من العلويين. فهم أبناء العباس عم النبي، والعم يفوق ابن العم (علي) في القرابة. وقد نكل العباسيون بالعلويين ـ وساعدهم الفرس في ذلك ـ تنكيلاً أشد مما صنعه بهم الأمويون وشتتوهم في الأرض. لكن هذا التطور لم يمنع أن الفرس قد نالوا في العصر العباسي مكانةً ما كان أكثرهم طموحاً يحلم بها. فالعباسيون بحربهم على الأمويين واضطهادهم للعلويين من أبناء عمومتهم قد قطعوا جسور الثقة بينهم وبين العرب ليمدوها نحو الفرس. 

أصبح الفرس في بلاط العباسيين الوزراء والولاة والمستشارين. ونقل العباسيون مقر عاصمتهم إلى قرية صغيرة تسمى بغداد بُنيت فيها القصور والدواوين على الطراز الساساني. ولأول مرة يستخدم الحكام العرب حجاباً بينهم وبين الناس على النمط الكسروي. ومن يراجع تاريخ الخلفاء العباسيين يجد أن كثيرين منهم كانوا من أمهات فارسيات. وظل الفرس مسيطرين بشكل غير مباشر على الدولة العباسية حتى إنهيارها الأول بدخول العناصر الشركسية والتركمانية إليها، ووقوعها تحت سطوة قادة الجند من غير العرب. ويخبرنا التاريخ كيف تشكلت الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي تزامناً مع تفتت الإمبراطورية العربية إلى أقاليم تحظى بالحكم الذاتي وتخضع للخليفة في بغداد خضوعاً إسمياً. 

وعبر القرون الأربعة عشر التي تشكل تاريخ الإسلام، كثيراً ما لجأت الحركات الشيعية إلى الأراضي الفارسية هرباً من الاضطهاد وتجميعاً للقوى، كما حدث للفاطميين مثلاً بعد سقوطهم في مصر. كذلك خرجت هذه الأفكار من بلاد فارس إلى كل المناطق التي تدين بالإسلام لتشكل تحديات مقلقة للدول الحاكمة. وكثيراً ما امتزجت العقائد الشيعية مع التعاليم المجوسية والمانوية لتخرج لنا هذا الطيف الثري من الأفكار الباطنية التي تملأ عشرات المجلدات لمن يرغب الإطلاع عليها. 

لا يعني ما سبق بالطبع أن التشيع هو فكرة فارسية خالصة. فقد نبع التشيع من العرب وارتهن تطوره بصراعاتهم السياسية وتصوراتهم الفقهية النابعة من فهمهم لقضايا الخلافة والإمامة. لكن كما وجد الفرس في مؤازرة التشيع حلاً منطقياً لمعاناتهم تحت حكم الأمويين، وجدوا في تبنيهم الكامل لهذا المذهب وسيلة مثلى في مواجهة العثمانيين. فبعد قرون من التفتت تمكن العثمانيون من احتلال أغلب العالم الإسلامي وتوحيده مرة أخرى تحت سلطتهم المركزية. لكنهم لم يتمكنوا من إخضاع إيران التي أعلنت مذهب الإمامية الإثنى عشرية مذهباً رسمياً لها بدلاً من المذهب الشافعي الذي كانت تعتنقه ـ على الأقل على المستوى الرسمي المعلن ـ حتى نهايات القرن الخامس عشر. ويتجادل المؤرخون في كون هذه السياسة جاءت تعبيراً عن سيادة التشيع في إيران في ذلك العصر أم فرضاً عليها من قبل حاكمها إسماعيل شاه الصفوي (1487- 1524)، لكنهم لا يختلفون حول سياساته القاسية في إنتزاع المذهب السني من بلاده. 

وفي العصر الحديث تمكن نظام الملالي في إيران من كسب تأييد كبير وسط الإيرانيين لمزجه المعتقد الديني بالكبرياء الفارسي القديم الذي جرحته الهزيمة أمام العرب. هل كان التشيع عبر التاريخ حلاً فارسياً للحفاظ على الهوية الفارسية من الضياع أمام جيرانها من العرب والأتراك؟ بعض المؤرخين والمحللين يقولون بذلك، وبعضهم الآخر يرى في هذا الرأي مبالغةً كبيرة.  لكن المؤكد أن محاولات إيران الحالية للسيطرة على المنطقة العربية ذات الأغلبية السنية لا تهدف لإقناع المسلمين في هذه المناطق أن علياً كان أجدر بالخلافة من أبي بكر، خاصةً مع وجود أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين في العراق. فالعرب لديهم الآن عقدةٌ ذنب جديدة يعانون منها.