الناس العادية طلعت سوبر
في وقت ما مع الأحداث الساخنة - قبل وأثناء وبعد - ثورة يناير 2011، تواجد قدر من الانسجام والتوافق، بين أحاديث وانطباعات وأحكام الناس العادية (أو ما يصطلح إعلاميا على تسميته عادة رجل الشارع)، وأحاديث وانطباعات وأحكام الكُتاب في الصحف، ومشاهير السوشيال ميديا، ونجوم الفضائيات والسياسيين.
التباين تواجد بدرجات في بعض العناصر، لكن الفكرة السائدة المشتركة وقتها، تتلخص في اعتبار نظام مبارك المسؤول الرئيسي عن انحدار الأوضاع خلال العقود الأخيرة. وأن الكفاءات المصرية موجودة في كل المجالات لكن مدفونة بسبب النظام الفاسد. وأن إزاحة هذا النظام سينتج عنه درجة من التحسن الملموس.
حتى مؤيدي مبارك استسلموا للأمر الواقع، بعد بيان التنحي الشهير وارتضوا بالتغيير. الخلافات اللاحقة بخصوص دولة علمانية أم دينية، وأزمات الدستور والبرلمان وخلافه، شهدت أيضا توافقا بين الناس العادية في الخندق الذي اختاروه من الطرفين، وبين رموز هذا الخندق في الإعلام والسوشيال ميديا.
إذا كنت من متابعي الفيس بوك، فستذكر غالبا تلك الأيام، التي كان من العادي يوميا فيها، أن تجد عشرات المقالات والفيديوهات السياسية في استقبالك، وكانت النغمة السائدة هي احتقار كل البدائل ذات الجماهيرية سابقا، وعلى رأسها كرة القدم والمسلسلات.
ما حدث خلال الأعوام التالية، طرح الحقيقة المُرة التي كان من الصعب تخيلها في بداية الثورة. لا توجد بدائل أو كفاءات حقيقية أفضل بالشكل الذي تحدث عنه الكل سابقا. والمجتمع ككل غير مهيأ للانطلاقة القوية التي آمن بها الغالبية بداية الثورة. يمكن بالتأكيد اعتبار نظام مبارك مسؤولا أيضا جزئيا أو كليا، عن نقطة غياب الكفاءات، وهي قضية أخرى لا تعنيني هنا. ما يعنيني أن الناس العادية أعادت النظر لأحكامها وانطباعاتها ومواقفها الثورية السابقة، بشكل لم يحدث من أغلب المشاهير.
كمثال بسيط، ستجد وسط الناس العادية من يعترف صراحة أنه أخطأ كثيرا في تفضيل مرشح الإخوان للرئاسة في جولة الإعادة. وهو ما لم تسمعه غالبا حتى الآن من أعضاء فريق اتفاق فيرمونت، وأنصار عصر الليمون.
في الحقيقة لا يزال أغلبهم يرى أن "المجد لعاصري الليمون"، ويصنف موقفه كقمة الذكاء والحنكة. ناسيا - أو متناسيا عمدا للدقة - أن كل الهراء المذكور عن فضل هذه الخطوة في كشف حقيقة الإخوان، لا قيمة له في الحقيقة، لأن المؤسسة الوحيدة التي أنقذت الموقف، كانت المؤسسة العسكرية أو "الدولة العميقة" التي يكرهها ويهاجمها حتى الآن. ولولا صمودها وسط طوفان التغيير، لكنا الآن ربما على مسار الثورة الإيرانية، التي قامت من أجل الحريات والعدالة أواخر السبعينات، وأنتجت في النهاية بفضل مواقف ونظريات عصر الليمون المشرفة المماثلة، دولة استبداد ديني جاثمة على صدور الإيرانيين حتى الآن.
ستجد أيضا هذا التباين بخصوص درجة قبول الحلول الأمنية، أو قبول تقليص حصص الدعم على الطاقة. هذا التباين يستحق وقفة وتفسير.
المثقف والإعلامي ومعهما الأكاديمي المتخصص في معارف غير مادية (فلسفة - اجتماع.. الخ)، هم في الحقيقة على عكس الفكرة السائدة عنهم كمفكرين، الفئة الأقل مراجعة وتأثرا بواقع التجربة العملية. وفي معارفهم ما يكفي، لتفسير وتبرير وقراءة الواقع العملي، بدون تخطئة أنفسهم أو منهجهم أو مواقفهم.
تمثل الشهرة وكبرياؤها حاجزا آخر، يصعب تخطيه. دعك طبعا من أن الترابط بينهم وبين جمهور نفس المواقف، سينكسر غالبا إذا تغيّر الموقف. وهي مسألة مزعجة جدا نفسيا، ومزعجة أيضا إذا كان دخلك وأكل عيشك مرتبط بعدد جمهورك (كاتب مقال - مقدم برامج - محلل أكاديمي يظهر باستمرار في الفضائيات.. الخ).
الأزمة الثانية التي كرّست هذا التباين، تتلخص في القناعات والأيدولوجيات السائدة وسط الكل. في منطقة يملك أغلبها استعلاء لأسباب دينية معروفة، وتشبعت لعقود وعقود بالأفكار اليسارية والاشتراكية (الدولة التي تلتزم بكل شيء)، كان من الحتمي أن ينتج هذا التزاوج غير الحداثي، خطاب إعلامي وجماهيري يولد إدانة مستديمة للدولة والحكومات، مقابل تعظيم وتفخيم مستديم للمجتمع والمعارضة. ومن الصعب جدا تغيير بوصلة هذا الخطاب 180 درجة، مهما كانت نتائج التجربة العملية، تُبشر فعلا بنقيضه.
الناس العادية تعلّمت وتغيّرت وأعادت النظر بفضل التجربة العملية، والناس السوبر لا تزال تنتج نفس الخطاب عن التغيير. والطريف أنك لو سألت أي منهم جديا عن بدائل ومسارات سياسية حقيقية كاملة للتغيير، أو أسماء لكفاءات وكيانات مدفونة تصلح للطرح، لن تسمع إجابات. والأكثر كوميديا أنك ستجد في ردود أفعال بعضهم، ما يثبت أنه لم يسأل نفسه سابقا هذه الأسئلة أبدا. وهو ما لا ينطبق على الناس العادية الأكثر منطقية، والأكثر قدرة ويا للعجب، على التفكير والتحليل النسبي في المواقف السياسية.
نكتة الضغط للتغيير بدون وجود بدائل من الأصل، وانعدام التفكير بوجوب طرح بديل، نكتة طريفة مرعبة، أتعشم ألا أضطر لكتابتها بعد 3 أو 4 سنوات من الآن. وإن كنت - بسبب التجربة العملية أيضا - أرجح أنني سأكررها للأسف أضعاف هذه المدة. من لم يتعلم شيئا من واقع الـ 4 سنوات الأخيرة، لن يتعلم أبدا غالبا.