مصر المستقبل: تخلصي من عقدة محمد أفندي
شخصية حمدي أحمد في فيلم الأرض تمثل الخط العام الذي تبناه كتاب الستينيات نحو أشباههم من الجيل الأول من أبناء القرى الذين هاجروا إلى المدينة، ليدرسوا في الجامعة، ثم ليعملوا في وظيفة حكومية، بينما لا يزال أهاليهم، ربما إخوتهم، وقطعا أباؤهم، يعيشون في نفس القرية، في ظروف مختلفة، يؤدون مهنة مختلفة.
الأهل مزارعون.
الابن المهاجر موظف في وظيفة مكتبية.
الأهل يعملون بأيديهم، ويكدحون في الشمس الساخنة، ويرتدون ملابس متسخة، ويحلمون بالطعمية الساخنة، و"يروون الأرض بدمائهم" لكي تنتج لنا ما نأكله.
الابن المهاجر يرتدي ملابس نظيفة، ويتأفف عن المشاركة في العمل الذي يعمله أهله حتى لا تتسخ هذه الملابس.
ما هذا؟
فلاش باك
قبل آلاف السنين بزغت الزراعة كثورة تكنولوجية، برعت فيها بديهيا المجتمعات التي تعيش على ضفاف الأنهار. حين نسمع كلمة مصر مهد الحضارة، أو بابل أو الأشوريين، فنحن في الواقع نتكلم عن هذه الحقيقة. اكتشفت الزراعة (تغيرت وسيلة الإنتاج الرئيسية)، لم يعد هذا المجتمع البشري يحتاج إلى التنقل من أجل الصيد أو الجمع والالتقاط، أو ترحالا خلف مناطق العشب لكي يرعى الأغنام كما كان يفعل البدو الرحل.
التلاسن، والذم المتبادل، بين الرحل والمزارعين إلى يومنا هذا، حيث كل منهما ينسب إلى الآخر أسوأ الصفات، نشأ من هذا الصراع بين مجتمعين متضاربي المصالح. أحدهما يتطلب استقرارا والثاني يريد أن يعيش مرتحلا كما تعود، حيث هذه المهنة التي برع فيها. الأول يتطلب أمنا، والثاني يرى أنه استولى على الأرض التي يملكها البشر جميعا، ويبرر لنفسه الإغارة على الفلاحين لاسترداد حقه. ثم إن كل منهما يحتقر مهنة الآخر.
هذا صراع مجتمعي متكرر على مدى التاريخ كلما تغيرت وسيلة الإنتاج الرئيسية في مجتمع. من الجمع والالتقاط إلى الزراعة إلى التجارة إلى الصناعة إلى العصر الرقمي. كل وسيلة إنتاج من هذه (مهنة) تطلبت مهارات جديدة، لم تكن موجودة لدى المشتغلين بالمهنة التي سادت سابقا عليها. كل وسيلة إنتاج من هذه قللت إلى حد كبير أهمية الوسيلة السابقة عليها. مهن عظيمة، ليست الفلاحة فقط، تدهورت أهميتها على مدار التاريخ. مهنة الصيد، مهنة الحدادة، مهنة المحارب الفارس، ثم مهنة الفلاحة (بعد الميكنة الزراعية)، مهنة العامل والعاملة (بعد الآلة). كلما تغيرت وسيلة الإنتاج قلت الحاجة إلى محترفي وسيلة الإنتاج السابقة ووجدوا أنفسهم في عداد العاطلين. ضغطوا - سياسيا - لكي لا ينتقل المجتمع إلى وسائل الإنتاج الجديدة، وصولا إلى درجة استخدام الثورة والقوة المسلحة. وضغطوا إعلاميا أيضا.
الجيل الأول من مهاجري القرى إلى المدن كان جزءا من الحرب الإعلامية ضد التحديث، بدافع من عقدة الذنب، ومن تعوده على نمط الحياة السابقة واشتياقه لها. ظل حياته يعتذر لأخيه وأبيه عن حياته الجديدة، يذم في نفسه، ويبالغ في المدح فيهم. يذم في حياة المدينة، ويبالغ في مدح حياة القرية، وأخلاق القرية، وناس القرية. وترسخت لدينا في الأدب والسينما العادة. وصارت التعبيرات المرتبطة به تعامل على أنها بديهيات لا تحتاج إلى إثبات.
في الشق السياسي والاقتصادي والمجتمعي يكون هذا الشعور مسؤولا عن كثير من بلاوينا.
نمط الإنتاج الزراعي الذي لدينا نمط قديم، وفلاحونا مهاراتهم محدودة جدا. لكننا حتى الآن، نكيل المديح للفلاح المصري، ولا ننبهه إلى أنه بهذه الطريقة خسران على طول الخط. النمط الإنتاجي الذي يتبعه هو الذي يجعل الزراعة مهنة خاسرة. وسوف يعوض الفلاح الخسارة بالبناء على الأرض الزراعية، فتنهار الزراعة أكثر، وأنه لا سبيل لإصلاح هذه المعادلة إلا بتحويل الأرض الزراعية إلى مشروع استثماري متكامل.
لا، إننا بدلا من هذا - بسبب عقدة محمد أفندي - نتبنى بعض الشعارات عن الأرض الطيبة، ونحذره من المشاريع الاستثمارية في أرضه، ونحمل أنفسنا كمجتمع مسؤولية سد الفارق الاقتصادي، فندعو إلى إجراءات حمائية بدافع من الوطنية، دون أن نسأل أنفسنا إلى متى سنستطيع تحمل الأعباء، وكيف ستستطيع الفلاحة بلا استثمار أن تسد حاجة البلد.
نفس الشيء يحدث مع المهن محدودة المهارات، كمهنة البناء. لا بد أن ننشر الرسالة الواقعية ونضمن أن يسمعها العمال المصريون: إن مهاراتكم محدودة، حتى في المهن التي تتطلب مهارات بسيطة. لستم بنائين محترفين، ولا كهربائية محترفين، ولا سباكين محترفين، وشغل "الطلسأة" سيضركم، لأنكم لن تجدوا من يوظفكم.
النص على السماح باستقدام العمالة الأجنبية في قوانين الاستثمار نابع من هذا، من إدراك المستثمرين أن سوق العمل المصري فقير في مهاراته. بينما نحن - بسبب عقدة محمد أفندي - نمدح العامل المصري (اللي خطفته الأستانة من 200 سنة) ونريد أن نجبر أصحاب المشاريع على القبول بالعمال المصريين كما هم، بدل أن "نبكيهم ونبكي عليهم"، ونحثهم من الآن على تنمية مهاراتهم.
نفس الشيء سينطبق على خريجي الجامعات. وسائل إنتاج العصر الحالي، لن يفيد معها إلا مهارات العصر الحالي.
إن اللعبة القديمة في حرب "وسائل الإنتاج" هو أن يحارب أصحاب المهارات القديمة حائزي المهارات الأحدث، يحقرون من شأنهم، ومن شأن مهاراتهم، يستهينون بالمجهود المبذول فيها، يصفون مجتمعاتهم بالفساد وسوء الأخلاق. ليست هذه مؤامرة. بل صراع مصالح متوقع. أين المشكلة؟ المشكلة حين تنحاز ثقافة المجتمع إلى القديم على حساب الجديد، حين ينحاز من يقودون تفكير المجتمع وسياساته إلى القديم على حساب الجديد. بداية من مدح أخلاق القرية، وصولا إلى الأغاني عن عظمة الفلاح المصري (اللي غالبا فاشل بالمعايير الموضوعية).
هذا يؤدي إلى سياسات تكرس الانتصار للقديم. هذا يؤخر التطور. بمقدار ما نجح القديم في ابتزازنا، ووجد بيننا من يعاونه، سنظل متأخرين. الزراعة، العمل الوظيفي الحسابي، وغيرها، مجرد مهن، سيجري عليها ما يجري على المهن عبر التاريخ، تبرز مهن أهم منها، من يكتسبوا مهارات المهن الجديدة ينجحوا، ومن يظلوا على القديم يسقطوا من السلم.
هذه رسالة الواقع، التي يجب أن يعلمها الجميع، والتي يجب على من يتحدثون في الشأن العام أن يكونوا أمناء في نقلها. دياب (علي الشريف في فيلم الأرض) عليه أن يتعلم كيف يجعل أرضه مربحة، لكي يستطيع أن يعتمد على نفسه ويشتري الطعمية اللي ذلنا بيها دي. هو مش صغير يعني!