التوقيت الأحد، 24 نوفمبر 2024
التوقيت 08:49 ص , بتوقيت القاهرة

فرقة النخبة الناجية

قد لا نذكر على وجه التحديد متى ظهر مصطلح النخبة في قاموسنا الجمعي، فمن عادة الذاكرة الجمعية أن تُسقِط التفاصيل الهامة بنفس الكفاءة التي تُسقِط بها التفاصيل التافهة. لكن تحت وطأة الوضع السياسي المستمر منذ أربع سنوات أصبح هذا المصطلح دالاً على من يعملون بالسياسة ويتحدثون فيها ويكتبون عنها. وربما تحت وطأة نفس الوضع السياسي يوجه كل هؤلاء سهام نقدهم للنخبة. فالسياسيون من الرسميين والمستقلين والحزبيين يلومون النخبة. والكتاب والإعلاميون من المؤيدين والمعارضين يسخرون من النخبة. وأساتذة السياسة بدورهم يبذلون الجهد المخلص لتبرئة أنفسهم وإبراز مساوئ النخبة وفقاً للمناهج التاريخية والاجتماعية والاقتصادية كذلك. كل هذا يدفعنا إلى الظن أن كل من سبق ذكرهم لا يرون أنهم أعضاءٌ في هذه النخبة، بل هم يحرصون على دفع تلك التهمة عن أنفسهم بكل ما أوتوا من بلاغة. ونحن من واجبنا ـ وإعمالاً لمبدأ أن المتهم غوغائي حتى تثبُت نخبويته أو يعترف هو بها ـ أن نصدقهم. وقد يكون علينا أن نلتمس الراحة في ترديد تلك المقولات اليائسة التي تذهب إلى أننا لا نملك نخبة أو أن نكبتنا في نخبتنا أو أي مقولة أخرى تُعنى بالجناس.

لكن مجتمعًا يتعرض لما تعرض له مجتمعنا من فوضى سياسية في السنوات الأربع الأخيرة، (بل وربما في القرون الأربعة الأخيرة كما يرى البعض) ولا يسقط ولا ينهار، بل يظل محافظًا على تماسكه رغم كل عيوبه الموروثة والمكتسبة والمستوردة والمنتجة محليًا، لا يمكن أن يكون مجتمعًا بلا نخبة. فمما لا يتفق مع العقل أو المنطق أو واقع الأمور أن ننساق وراء الساسة (ممارسين ومتحدثين وكاتبين) لنظن أن العملية السياسة التي تديرها النخبة السياسية  (التي تنكر وجودها) هي التي تحدد مدى تماسك المجتمعات. فلقد تماسكنا قبل السنوات الأربع الأخيرة، وقبل أن "يزداد وعيُنا السياسي" كما يروج البعض، وسنظل متماسكين بعد أن يقل اهتمامنا بالسياسة (وهو ما يمكن رصد بوادره بوضوح) ونعود لاهتماماتنا الحقيقية. فليس كل إنسان يرى في نفسه "حيوانًا سياسيًا" كما يظن فلاسفة السياسة ومتفلسفوها، بل إن كثيرًا منا لا يرون في أنفسهم حيوانات من أي نوع. لكن كان تماسكنا وسيظل، برغم كل ما سبق ونتيجةً له، دليلاً على وجود النخبة وتصدرها للصفوف. وهي نخبةٌ لا تجيد التنكر أو الاختباء أو تسعى إليهما، بقدر ما نجيد نحن التجاهل وغض البصر.

اذهب إلي أي مدرسة أو جامعة، خاصةً كانت أو حكومية، ستجد وسط التفاهة والتسيب والضحالة قلةً من المعلمين والمعلمات يبذلون الجهد المخلص دون صخب في نقل ما يعلمون لطلابهم وتلامذتهم عن إيمان راسخ بجدوى التعليم. هؤلاء المعلمون والمعلمات من النخبة التي تنْبَحُ أصواتُها في الفصول والمدرجات حفاظًا على تماسك المجتمع. ستجدهم دائمًا يعملون أكثر من الآخرين. اذهب إلى أي مستشفى في أي حي أو قرية وستجد ما شئت من القذارة والإهمال وقلة الضمير لو كان حكوميًا، أو النظافة والإهمال وقلة الضمير لو كان خاصًا، لكن ستجد أيضًا أطباءً وممرضين وممرضات قليلين يعتنون بك في دقة. راقبهم وستجدهم بالضرورة يعملون أكثر من الباقين دون شكوى. قد لا يمطرونك بعبارات تتمنى لك الشفاء، لكنهم يعرفون موعد دوائك جيداً. هؤلاء من النخبة.

اذهب إلى أي هيئة حكومية أو وزارة أو قسم شرطة أو مصرف أو متجر أو محكمة وستزكم أنفك روائح الكسل والعزوف عن العمل والاستعلاء عليه، لكنك ستجد دومًا من يقدمون لك المساعدة ويسهلون لك الأمور. وستجدهم يعملون أكثر من غيرهم، ويرجع لهم الآخرون لسؤالهم، وستجدهم أكثر حرصًا على تحقيق مصالح الناس. لولا هذه النخبة لكانت الحياة جحيمًا لا يطاق.

اتصل بشركة أو هيئة أو توكيل لتقديم شكوى أو طرح استفسار، في الغالب ستتلقى من يجيبك باستعجال أو ملل أو غطرسة، أو كل ذلك معًا. لكن لا يُمكنك أن تُنكر أن في أحيان قليلة يجيبك من يشعرك أنك أهم شخص في العالم. اعلم أنك عندما تُحدث واحدًا من هؤلاء فأنت في حضرة النخبة. وقد تحضر النخبة إلى بيتك من آن لآخر في هيئة حرفي بسيط يجيد عمله ويصدقك القولَ، ولا يبالغ فيما فعل غرضًا لابتزازك واستغلالاً لجهلك بما يفعل. وقد تدخل النخبة بيتك كل يوم في صورة عاملة منزل أو مربية أو سائق أو طاهٍ. من يخدمونك بضمائر حية ويحرصون على مالك وعيالك حرصهم على مالهم وعيالهم قلةٌ لا شك، لكن أليست النخبة بطبيعتها قليلة العدد في كل عصرٍ ومِصر؟ خاصةً في مِصر؟

افتح أي صحيفة أو إذاعة أو قناة أو موقع إخباري، ستجد التفاهة والضحالة والعناوين المضللة والأخبار المكذوبة ومقالات الرأي المكتوبة بمداد السخافة والمبالغة. لكنك إن أنعمت النظر أو أمعنته سترى قلةً ممن يكتبون الأخبار الدقيقة والتحليلات الرصينة. قد لا يكونون من ذوي الشهرة والأسماء اللامعة لمعان الأحذية المطلية حديثًا، لكن هذه النخبة هي من تحافظ على تماسك الوعي في مواجهة أعاصير الجنون. اذهب إلى أي مكتبة وابحث بعيداً عن ركن الكتب الأكثر مبيعًا وستجد كتباً معقولة الأثمان كتبها عقلاءٌ من النخبة. افتح التلفاز وقلب بين القنوات، ووسط الأعمال الدرامية والأغاني والأفلام المشعة بالإسفاف المخصب، حتما ستعثر على عمل في قناة ما يحترم ذوقك وعقلك ويمنحك الترفيه دون ابتذال. تلك الأعمال القليلة لم يصنعها سوى نخبة المؤلفين والمخرجين.

سِرْ في الطريق وشاهد البنايات وستجد وسط القبح بنايةً صممها معماري نخبوي. نعم، هي تلك البناية التي تستوقفك بجمالها متمنيًا لو كنت من قاطنيها.

سِرْ في الطريق وستجد حتمًا على أحد الأرصفة دكان بقال أو محل لبيع الخضروات أو كشكًا بسيطًا يبيع صاحبه السلع الصالحة فقط ولا يعرض ما فسد منها أو انتهت صلاحيته لأن ضميره لا يرضى بذلك.

سِرْ في الحياة فاتحًا عقلك وقلبك وعينيك وستجد النخبة حولك في كل مكان إن أنت أردت أن تراها. ليست النخبة بالضرورة رجالٌ ونساءٌ من ذوي الثقافة الرفيعة أو السلطة النافذة أو الثروة الباهظة، بل هم أفراد قرروا النجاة بأنفسهم فكُتب للمجتمع النجاةَ على يديهم. نخبةُ لا تريد سلطةً أو نفوذًا أو شهرةً أو اعتراف. فقط يريدون خوض الحياة وفقاً لضمائرهم. يعملون في صمت، يذهبون ويجيئون في صمت، ويرحلون في صمت. ولوجود هؤلاء يتماسك المجتمع ولا يسقط. هم من يحافظون على سد الحضارة في مواجهة طوفان التخلف. هم من قال عنهم أمير الشعراء أمل دنقل:

بينما كنتُ..
كان شباب المدينة
يلجمون جواد المياه الجموح
وينقلون المياه على الكتفين
ويستبقون الزمن
يبتنون سدود الحجارة
علهم ينقذون مهاد الصبا والحضارة
علهم ينقذون الوطن!"..

صدقت النبوءة وأنقذَت النخبةُ الوطن.