التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 02:29 م , بتوقيت القاهرة

في بيتنا داعشيّ

ما أكثر ما كان لفظ "الحرام" يتردد على لسان والدتي أكثر بلا شك مما كان يرِد على لسان أبي أو أحد من إخوتي.. لم يكن السبب أن أمي تذكر "الحرام" كوصف لشرب الخمر.. إذ لا أظن أنها رأت الخمر في بيتنا قط.. ولا لوصف التمثال الصغير الذي كنت أضعه على مكتبي.. إذ لم يخطر بذهنها قط أني سأقوم بعبادته.. ولا بالطبع لوصف عزف الموسيقى أو الغناء الذي كانت تُحبه.. ولو كان يتضمن كلمات الحب والعشق طالما كان اللحن جميلًا.


هذه الفقرة هي استهلال مقال للدكتور "جلال أمين" المفكر المصري الكبير.. يصل الدكتور "جلال أمين" في إجابته عن السؤال إلى أن "القسوة" هي التي تُمثل "الحرام" عند المصريين.. ويدلل على ذلك بأن السبب الحقيقي لدأب الأجانب على التعبير عن حبهم للشعب المصري والإقامة في "مصر" كراهية القسوة والاشمئزاز ممن يمارسها .


ونلاحظ ذلك في تعليقات المصريين على ما يرونه من مناظر وما يمرون به من أحداث.. وهم كما يشمئزون من القسوة يستغربونها كلما رأوها.. إذ لا تبدو لهم مشاعر القسوة مشاعر طبيعية بالمرة بل أنه يذهب إلى حد الربط بين كراهية المصريين للقسوة وبين ما اشتهروا به من خفة الظل وتقدير النكتة الجميلة.. فالشخص القاسي ليس فقط غليظ القلب بل هو أيضًا ثقيل الظل ولا عجب إذ يستخدم المصريون بكثرة لفظ "الحرام" أي الشيء الممنوع دينيًا ويغضب الله في وصف القسوة .


ويعود "د.جلال أمين" لطرح السؤال من خلال معاودة التأكيد على وسطية الشعب المصري واعتداله الذي يعتبر أنسب وصف للشخصية المصرية وأفضل منه أن نقول – من وجهة نظره – إن كراهية القسوة هي بلا شك من أجمل الصفات طرًا.. ومن حق المصريين أن يفاخروا بها.


ثم يؤكد أنه إذا كان هذا التفكير صائبًا فكيف إذن نُفسر القسوة الزائدة التي رأيناها في تصرفات المصريين في أحداث العنف المُرعبة في كرداسة.. وفي حرق مديرية أمن المنصورة ومديرية أمن القاهرة.. وتدمير المتحف الإسلامي؟ ! هل هو تطور مخيف طرأ على الشخصية المصرية في السنوات الأخيرة أو في أعقاب ثورة يناير مما يشي بأشياء مخيفة أخرى في المستقبل؟!


يميل "د.جلال أمين" إلى الاعتقاد بأن تفسير مظاهر القسوة غير المألوفة في سلوك المصريين بعضهم إزاء بعض سواء كانوا من دين مختلف أو من نفس الدين.. شرائح اجتماعية زاد عددها ونما تأثيرها خلال الأربعين عامًا الماضية.. وعلى الأخص خلال فترة حكم "حسني مبارك" بمتاعبها الاقتصادية واستفحال الازدواجية والفوارق بين الطبقات مع انتشار تعليم رديء وإعلام أكثر رداءة انضم للتعليم الرديء في إفساد العقول وزيادة نار الازدواجية اشتعالاً.


هذا التفسير بالطبع إذا أضفنا إليه تفشي الفقر.. ودعاوي التكفير واستفحال الخرافة والدجل الديني والغيبيات واليأس من تحقيق العدالة الاجتماعية.. تكتمل الصورة.


  لكن لا أفهم سببًا لأن تكون كلمة.. "القسوة " هي الاستخدام الأمثل لتلك القضية التي يطرحها "د. جلال أمين".. ولماذا منعًا للالتباس الذي يجعلنا نصل إلى التعميم الواسع نتيجة عدم دقة المصطلح – من وجهة نظري – لا يستخدم كلمة "العنف" أو "الإرهاب الديني".


ثم أن ما ظهر مؤخرًا من نماذج بشرية مثل "محمود الغندور" وصديقه المصري الآخر "إسلام يكن" وتطرفهما.. وانضمامهما إلى تنظيم "داعش الإرهابي".. رغم أنهما ينتميان إلى طبقة اجتماعية ثرية لا تُفرخ التطرف والإرهاب.. فهذه الشريحة الاجتماعية لا تعاني من شظف العيش ولديها ما يجعلها فريسة للاستقطاب المادي أو القسوة للانتقام من مجتمع ظالم وكافر؟!


لقد أصبحت الصورة مفزعة لأن فيها من "الشيوع" و"التعدد" و"التباين" في الأنماط البشرية ما يجعلنا نلاحظ أن "غرابة سلوكها" لا يعني غرابة تواجدها في كل الشرائح الاجتماعية.. العليا أو الوسطى أو الدنيا.. قد تظهر في بيتك أو في بيتي.. بالقرب منك أو لصيقة الصلة بي.. تسكن في شارعنا وتركب معي نفس وسيلة المواصلات.. تجلس في المكتب الذي يجاورك في عملك أو تلتقي بها في ناديك.


إن "الإرهاب الداعشي" قد يكمن في داخلنا.. أو يلاحقنا أينما كنا.. فتلفت حولك.. وانظر خلفك في غضب .