الحب في زمن داعش
يدفعنا وجود داعش إلى كرهه وكره أشياء كثيرة. فذلك التنظيم الذي يقتات على الكراهية ويتنفس البغضاء يجبرنا على مبادلته ذات المشاعر. فمن الصعب علينا أن نحب أعداءنا، خاصةً إذا لم تكن لنا مصلحة في هذا الحب. وداعش، وكل من يقف وراءهم هم أعداءٌ مؤكدون لنا. نحن نكرههم ونكره أفعالهم وأفكارهم كما نكره أصواتهم وأشكالهم، بل وأزياءهم أيضًا.
لكن داعش وغيرها من عصابات الإرهاب الديني، كأنصار بيت المقدس وجماعة الإخوان المسلمين وحماس وتنظيم التكفير والهجرة والقاعدة والجهاد والناجين من النار والسلفية الجهادية وغيرهم كثيرون ممن يجب علينا محاربتهم، يشهرون في وجهنا سلاحا لم تمتلكه أعتى القوى التي سبق لنا قتالها، وهو تراثنا الديني.
إنهم يؤصلون لجرائمهم البغيضة في ذات التراث الذي نتخذه نحن منبعا لقيمنا السامية، وكأنهم يسممون النبع الذي نشرب منه جميعًا. وعندما يسري السم في دمائنا، لا نكره الإرهابيين فقط، بل نكره أنفسنا كذلك.
قد تكون الحرب بالضرورة خدعة، لكن ليس من الضروري أن ننخدع. فأعداؤنا الذين يحرقون البشر أحياءً وينحرون رقابهم يحاولون إشراكنا في مسؤولية الجريمة. أليسوا منفذين لما جاء في التراث الذي نعتنقه؟ ونحن ننخدع عندما ننساق وراءهم ونحاول تبرئة أنفسنا عن طريق تبرئة التراث، بينما الأمر في الحقيقة لا يعنينا.
قد يختلف المؤرخون والفقهاء مثلاً حول قيام أحد الخلفاء بحرق أحد الرجال حياً، وقد يختلفون حول قيام قائد عسكري في صدر الإسلام بذبح قبيلة كاملة، وقد يختلفون حول قيام أحد الولاة بإجبار أهل ولايته على اعتناق الدين عنوة. قد ينفي مؤرخون الوقائع من أساسها، وقد يجد لها الفقهاء مخارج شرعية وجيهة. لكن الحقيقة الساطعة التي لا يمكن الخلاف حولها هو أننا ـ في هذه اللحظة وهذا المكان ـ لم نحرق ذاك الرجل ولم ننحر رؤوس تلك القبيلة، ولم نجبر شعب تلك الولاية على اعتناق ديننا.
نحن لم نرتكب أياً من تلك الأفعال، عظيمة كانت في نظر البعض أو بغيضة في نظر البعض الآخر. ولذلك فنحن لسنا مطالبين بتمجيد تلك الأفعال إن كانت عظيمة، أو إدانتها إن كانت بغيضة، لأننا ببساطة لم نكن نحن من قاموا بها.
إننا نحيا في عصر آخر وفقاً لقيم أخرى ونواجه تحديات أخرى. ليس علينا أن نجيب عن سؤال إن كان على وبنوه أولى بالخلافة من معاوية وبنيه، بل علينا أن نجيب عن سؤال من هم أجدر الناس بتمثيلنا في البرلمان. لا يعنينا إن كانت الحروب التي خاضها أبو بكر الصديق ضد القبائل هي حروب من أجل الزكاة أم لمقاومة الارتداد عن الدين، بل يعنينا أن نقيم نظاماً عادلاً للضرائب. لا يهمنا اليوم إن كانت العهدة العمرية تنص على تمييز واضح ضد الذميين أم كانت حمايةً لهم، ما يهمنا أكثر هو فرض نظام يتساوى أمامه كل المواطنين. فلا خلافة في زمننا ولا ردة ولا أهل ذمة.
نحن كشعب تدين غالبيته بالإسلام ويعيش في القرن الواحد والعشرين، لسنا مسؤولين عما حدث في أربعة عشر قرناً على يد مسلمين آخرين بأكثر مما يعد إيطاليو اليوم مسؤولين عن مذابح الرومان. من يولدون اليوم في ألمانيا ليسوا مسؤولين عن الهولوكست بأكثر مما يعد طفلٌ يهوديٌ مسؤولاً عن صلب المسيح.
قد تكون مراجعة التاريخ واجبة لزيادة الفهم وكشف القوانين التي تحكم حركته، لكنها ليست أداة لجلد الذات وكراهيتها.
يحاول الرجعيون إغراقنا في بحار الماضي فنعمى عن رؤية اليابسة التي نقف عليها، حاضرنا. نحن أبناء هذا الحاضر لا غيره، حاضر مصر الحديثة الطامحة للتقدم والرخاء. تاريخنا هو تاريخ مصر الحديثة وقضيتنا هي قضيتها وحروبنا هي حروبها. نأخذ من تاريخنا القديم، وتواريخ كل الأمم الأخرى ما يجعلنا قادرين على أن نحب عصرنا ونحب أنفسنا ونحب مستقبلنا. من كان يعتنق ديناً أو مذهباً أو فلسفة ـ أياً كان ما يعتنقه ـ حباً في الحياة والخير والتقدم فليفعل دون أن يلتفت إلى المشككين. ومن كان يفعل كراهيةً في الحياة والناس والذات فليصطف مع الدواعش.
فلنبرئ أنفسنا مما لم نرتكب من جرائم، ولنحب أنفسنا، ولنكن أنانيين. من عاشوا في الماضي لم يحيوا حيواتهم من أجلنا، فلا يجب أن نكره ذواتنا من أجلهم. أعداؤنا من أبناء عصرنا أجدر بهذه المشاعر المفيدة.