التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 03:22 ص , بتوقيت القاهرة

ما الهدف من العملية العسكرية في ليبيا؟

من أهم الخبرات المُستفادة من الحروب أنَّ باستطاعتك أن تبدأ حربًا، ولكن من الصعب للغاية أن تتنبأ بما ستؤول إليه الأمور.


الحرب عملٌ فوضوي للغاية. هو بطبيعته حافلٌ بما هو مفاجئ وغير متوقع وخارج عن السيطرة. قد تبدأ الحرب وفي نيتك هدفٌ محدد، فتجد نفسك وقد انتقلت- بالتدريج وخطوة بعد خطوة- إلى منطقة أخرى تمامًا، لم يدر بخلدك أن تصل إليها.


مهمٌ إذن أن نُحدد الهدف من العملية العسكرية التي نخوضها في ليبيا. التحديد الواضح للهدف يُساعد على تجنب الانزلاق إلى ما يتجاوزه، ويُساعد على حشد الطاقات من أجل تمام إنجازه.


سأبدأ هنا بما هو (ليس) من أهداف العملية العسكرية المصرية التي بدأت فجر 16 الجاري بضربة جوية لمواقع "داعش" في مدينة درنة الليبية: 


- ليس من هدف هذه العملية العسكرية إعادة هندسة الوضع السياسي في ليبيا، فهذا يتجاوز طاقة مصر، وهو هدف غير قابل للتحقق من الأصل. ليبيا ستظل رهينة لحرب الميليشيات لفترة طويلة قادمة، وليس بالإمكان تخيل عودتها ككيان سياسي موحد ومستقر في أي وقت قريب.


- ليس الهدف هو تنظيف ليبيا من الميليشيات المُسلحة، فذلك بدوره هدفٌ يتجاوز طاقة القوات المسلحة المصرية (وأي قوات مسلحة أخرى، إن شئت الدقة). في ليبيا نحو 500 ميليشيا ينضوي تحت لوائها ما يقرب من ربع مليون شخص، يحاربون مع هذا الطرف أو ذاك، وهذه الميليشيات مسلحةٌ جيدًا بواقع ما استولت عليه من ترسانة القذافي.


- ليس الهدف هو إنهاء وجود تنظيم داعش في ليبيا. هذا الهدف أيضًا يتجاوز إمكانية دولة كمصر، بل يتجاوز إمكانيات الغالبية الكاسحة من دول العالم. (لاحظ أن هناك احتمالاً أن تُفكر داعش، تحت وطأة الضربات في المشرق العربي، أن تنقل محور عملياتها إلى ليبيا).


ويُعد هذا تفكير استراتيجي سليم، من الزاويتين العسكرية والسياسية، فليبيا دولة شاسعة يقطنها عدد قليل من السكان، وحدودها مترامية الأطراف يصل طولها إلى ستة آلاف كيلومتر، وهي تتصل- من خلال هذه الحدود- بحزام كامل يضم ما يُعرف بدول "الساحل" الإفريقي، وهي ساحة مفتوحة لانتقال السلاح والمخدرات والمقاتلين والمهاجرين غير الشرعيين. أضف إلى ذلك كله المقدرات البترولية، حتى تكتمل "مثالية الموقع" الليبي بالنسبة لداعش.


-أيضًا، ليس الهدف من هذه العملية العسكرية هو مجرد الانتقام لمقتل الأقباط المصريين على يد داعش. إذ برغم أن المقتلة كانت الباعث المباشر وراء العملية، إلا أن الهدف- بالتأكيد- يتجاوز الانتقام مما حدث (مع عدم التقليل من أهمية الانتقام كدافع مُعتبر في حد ذاته).


-وأخيرًا، فليس الهدف هو امتصاص الحالة التي انتابت المصريين من حُزن حقيقي وخوف عميق وإحساس بالالتياع والحزن والخطر الشديد.. كل ذلك في آن واحد.


فطبيعي أن تتأسس أي عملية عسكرية على تأييد واسع في أوساط الرأي العام، وقلما تبدأ الدول نزاعًا عسكريًا لا يكون محمولاً على موجة شعبية مُساندة. إلا أن الأهداف المرجوة من العمليات العسكرية تتجاوز مجرد إرضاء الرأي العام، أو تهدئة غضبه.


ما الهدف من وراء العملية العسكرية إذن؟


أزعم أن الأهداف المصرية تتمثل في التالي:
- خلق الانطباع لدى مختلف الأطراف بأن مصر لا تخشى المواجهة، وأنها قادرة على القيام بحشد عسكري لتحقيق أهداف مُحددة. هذا الانطباع هو هدفٌ في ذاته. هو هدفٌ حيوي للغاية في الشرق الأوسط، حيث للانطباعات أهمية تفوق في أحيان كثيرة الحقائق والوقائع. في الشرق الأوسط هناك اعتبارٌ للصورة والمكانة، وما يُسمى إجمالاً بالهيبة. إذا ذُبح عشرون من مواطنيك ولم تُحرك ساكنًا، فلا هيبة لك أو مكانة، ولصرتَ جدارًا واطئًا يعتليه من يعتليه.


- إعطاء رسالة بأن مهاجمة المصريين، في داخل مصر أو خارجها لها ثمن. وهي رسالة لمن قاموا بالعمل نفسه، ولآخرين أيضًا. 


- إعطاء رسالة بأن مصر لا تقبل باستهداف الأقباط. وهي رسالة مهمة للداخل، للإسلاميين والأقباط على حد سواء.


- دفع العالم للتعامل مع الأزمة الليبية بجدية أكبر: إن التدخل المصري في ليبيا هو أمرٌ لا تُحبذه دول غربية كثيرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة. هناك دوائر كثيرة ترى أن لمصر "أطماع" في ليبيا، بل وترى أن محاولة تكرار "نموذج السيسي" في ليبيا على يد اللواء حفتر هو ما جلب الاستقطاب والصراع إلى هذا البلد.


تدخُل مصر عسكريًا لن يُريح هذه الأطراف (وعلى رأسها الولايات المتحدة). أغلب الظن أن العملية العسكرية الجارية ستكون مقدمةَ لتعامل دولي أكثر جدية مع  الوضع المُتفجر في ليبيا، ونهاية لحالة التراخي والتجاهل والتغافل التي صبغت تعاطي الغرب مع هذه الأزمة الخطيرة طوال العام الماضي.


- إعطاء دَفعة لحكومة "طبرق" ولعملية الكرامة للاستمرار في العمليات العسكرية في مواجهة الميليشيات الإسلامية في شرق ليبيا، ومساعدتها للانتقال من موقع الدفاع إلى الهجوم على مواقع تمركز داعش وتحدي سيطرة ما يُعرف بالمؤتمر الوطني العام (البرلمان المنحل بزعامة الإخوان) على العاصمة طرابلس.


- تأمين الحدود المصرية الغربية (تمتد لأكثر من ألف كيلومتر)، وذلك عبر خلق علاقة ممتدة مع أصدقاء يُمكن الاعتماد عليهم من الزعامات السياسية والقبائل والميليشيات المُضادة للإسلاميين في شرق ليبيا. تكوين هذه الشبكة الداعمة لن يتحقق سوى بالانخراط بصورة مُباشرة في الصراع من خلال ضربات جوية مُركزة تُمثل عنصر إسناد حقيقي لهذه الميليشيات في حربها ضد الميليشيات الإسلامية. (لكي يتعاونوا معنا في حماية الحدود، لابد أن نساندهم في صراعهم مع خصومهم. إنها معادلة بسيطة).


- إضعاف- وليس إنهاء- تواجد داعش في ليبيا.


- خلق حالة من الاستقطاب داخل معسكر طرابلس الإسلامي، والذي يضم أطيافًا متباينة من القوى السياسية. بعض هذه القوى يشعر بالفعل بأنه استُدرج- من حيث لا يرغب- إلى مربع داعش وأنصار الشريعة. من هذه القوى- كما أشارت تقارير متواترة للصحفي النابه عبد الستار حتيتة في الشرق الأوسط- رجال أعمال وسياسيون من مصراتة (الحليف الأول للإسلاميين). الضربات المصرية المُركزة سوف تُزيد من الاستقطاب داخل هذا المعسكر، وتُحدث نوعًا من الفرز داخله، بما يعمل على إضعافه وزيادة عوامل الفرقة داخله.


-تأكيد مسؤولية مصر في حماية النظام الإقليمي من التفتت والتفكك. هذه المسؤولية تقتضى-كما هو واضح- التخلي عن سياسة "النأي بالنفس" عن المشكلات والصراعات.


هذه السياسة صبغت التوجه الخارجي لمصر طوال العقود الأربعة الماضية(باستثناء التحرك في حرب الخليج الثانية تحت غطاء التدخل الدولي الذي قادته الولايات المتحدة). اليوم، لم تعد سياسة "النأي بالنفس" تلائم التغيير الكاسح الذي يجتاح المنطقة.


يتعين تهيئة الرأي العام، في الداخل والخارج، إلى أن هذه السياسة ستتغير، وأن مصر مستعدة لتحمل أعباءً خارج حدودها دفاعًا عن استقرار المنظومة الإقليمية. الضربات على ليبيا تسهم في إحداث هذه التهيئة المطلوبة.