التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 03:54 م , بتوقيت القاهرة

السياسة الأمريكية الحالية وتضاربها مع مصالحنا

من المفهوم والطبيعي أننا نتوقع أن السياسة الأمريكية لن تقوم على أساس مصالحنا، بل على أساس المصالح الأمريكية، وأن أي قواعد أخلاقية أومرجعيات أيديولوجية تتوارى في العادة عند اصطدامها بالمصالح.


ونتوقع أيضًا أن أي دولة كبرى وذات مصالح متشعبة كالولايات المتحدة، يمكن للمراكز البحثية ودوائر صنع القرار فيها أن تضع عشرات السيناريوهات المختلفة لتحقيق مصالحها، وأنها ستفاضل بين تلك السيناريوهات.


القضية الأساسية هنا هي كيف تضع الولايات المتحدة وترتب أولويات سياساتها الخارجية تجاهنا؟  ثم كيف ترى السيناريو المثالي من وجهة نظرها لتحقيق هذه الأولويات.


الولايات المتحدة - في تصوري-  لا ترغب في دخول حرب جديدة في مناطق جديدة، بعد أن تورطت في الخمسة عشر عامًا الماضية في أفغانستان والعراق، وما تكبدته أثناء تواجدها (المستمر في أفغانستان إلى اليوم) من خسائر بشرية وتكاليف ضخمة، وبالتالي فهي ترى أن هذه المنطقة مسكونة من شعوب  ليست ديمقراطية ولا راغبة في الحرية بالفعل، بل هي مجتمعات تعيش غالبيتها بأفكار القرون الوسطى المتطرفة.


 وبالتالي فإنها لا تحاول معالجة السؤال الشهير لماذا يكرهوننا؟ عبر توضيح وتبرير سياساتها؛ لأنها ترى أن أسباب الكراهية لها هي لكونها القوة الأكبر في المعسكر الغربي المكروه أساسًا لأسباب غير سياسية أو أيديولوجية بقدر ماهي أسباب دينية لدى غالبية المواطنين في تلك الدول، بسبب ثقافتهم القروسطية المتعصبة، وبالتالي فهي لن تنجح في استمالة هؤلاء بالإقناع، ولو استخدمت ألف قناة كالحرة ومليون إذاعة كردايو سو.


الولايات المتحدة غير قادرة علي إقناع هؤلاء الناس بأفكارها ولا تستطيع  تحسين صورتها في هذه المجتمعات، رغم أنها بالفعل أقنعت شعوب أوروبا الشرقية، حيث لا تزال صورة الولايات المتحدة براقة للغاية في دول الكتلة الشرقية السابقة، وبالاخص بولندا ورومانيا وجمهورية التشيك،  ومؤخرا أوكرانيا، لأسباب تتعلق بتجربتهم المريرة مع السوفييت والدعم الأمريكي لهم، والتخاذل الأوروبي في دعم تشيكوسلوفاكيا في مواجهة النازيين ثم البلاشفة السوفييت.


وبالتالي فالأمر لن يكون حربًا دموية تنتهي بامتنان الحلفاء، ولن تكون حربًا باردة تنتهي بامتنان غالبية الخصوم السابقين، الأمر باختصار يشبه حربا صفرية لا يمكن تجنبها إلا بترك الأيديولوجيا القروسطية تأكل نفسها، وتصحح أفكارها بنفس الطريقة التي حدث بها التطور في أوروبا في فترة الحروب الدينية وحرب الثلاثين سنة؛ لتنتهي في النهاية إلى ضرورة العلمانية والتنوير.


الولايات المتحدة تري بالتالي أنها تتعامل مع شعوب كارهة لها  لأسباب دينية نتيجة تخلفها، وأن وجود أنظمة حكم مؤيدة للتحديث ولكن ذات جماهيرية قليلة باعتبارها أنظمة دكتاتورية،لن يقلل العداء للأمريكان والغرب، بل يمكن لهذه الأنظمة الحداثية ذاتها دائماً  تبرير فشلها بأنها ضحية مؤامرات الغرب (المكروه أصلا) .


وبالتالي فالحل المثالي كان في نظرها  تقديم دعم سياسي لمجموعات هي بذاتها تستخدم الخطاب الرجعي القروسطي المعادي للحريات والمعادي للغرب بحدود، ولكنها تقوم بتقديم السياسة على الأيديولوجيا الدينية عند الحاجة (كالإخوان المسلمين) بحيث يتم  إدماج هؤلاء في عملية سياسية ستقود في الأغلب إلى أحد نتيجتين، إما أن يتم تطور أيديولوجي عبر الضغط الداخلي والخارجي، لتتحول تلك الدول إلى ديمقراطيات ونظم حديثة بعد سنوات طويلة حتى لو حدث ارتداد مبدئي إلى الخلف (تراه السياسة الأمريكية ضرورة لا بد منها لأن التحديث السابق في المنطقة كان نخبوياً وقادماً من أعلى وليس من أسفل) أو إلى صراع  سيقود إلى أن ينشغل هؤلاء الكارهين لها بحالهم لمدة طويلة جدا لحين توصلهم إلى ماتوصل إليه الأوروبيون من قبلهمولكن بعد خوض التجربة الدموية بالكامل .


كما أن هذه القوى الأقل راديكالية ستكون دائماً في موقف محرج  بسبب أفكارها وسياساتها المتخلفة، وبالتالي ستكون دائماً معرضة لضغوط غربية أو لتهديدات بالتدخل لحماية الأقليات عند الحاجة الخ ، النتيجة باختصار كيان أضعف سياسياً.


تعلمت الولايات المتحدة هذا من تجارب سياسية سابقة، فقد استخدمت كثيرا  فكرة الاستفادة من أعتى خصومها في تحقيق أهدافها والأمثلة كثيرة، ولكن من أهمها فضيحة إيران كونترا التي أظهرت كيف استخدمت الولايات المتحدة،  وفي ظل واحد من أكثر رؤسائها المؤدلجين عبر التاريخ علاقات ملتوية وغامضة لإيصال السلاح إلى خصمها  الكبير إيران بعد شهور قليلة  من إهانة كبيرة للولايات المتحدة باستمرار احتجاز رهائنها عامين في إيران حتي عام 1981،  لقد استخدمت إيران أذنابها في المنطقة العربية  لاختطاف أمريكيين ثم قامت بمقايضتهم بهذه الصفقة التي كانت تحتاجها أثناء حربها مع إلعراق.


بالمثل فقد استفاد الإخوان من هذه التجارب وتعلموا كيفية توزيع الأدوار والظهور كمعتدلين في مواجهة متطرفين، كما تعلموا من تجربة أردوجان لعبة اللعب على الغرب من الجانب الاقتصادي باعتبارهم مؤيدين لاقتصاد السوق وليبراليين، كان أردوغان وحكومته يصفون أنفسهم بوصف متناقض لإخفاء أيديولوجيا الإسلام السياسي وتمريرها بسهولة،  فقد روجوا لانفسهم كليبراليين محافظين(ليبراليين اقتصاديا ومحافظين اجتماعيا ) في أوروبا، وهو توصيف يمكن فهمه لدي الأمريكيين عند فهم طبيعة العلاقات في اليمين الأمريكي بين الليبرتاريين والمحافظين والمتدينين، ولهذا يمكن الترويج سياسيا للتجربة الأردوجانية في أمريكا باعتبارها كمقابل  لحزب  كالحزب الجمهوري، وبالتالي فإنه يمكن تفهم أنه بالضرورة  يجب أن يبقي جزءاً من العملية السياسية، ولو بدا أحياناً صاحب وجهات نظر شاذة أو متشددة دينيا.


باختصار فإن قوى الإسلام السياسي  مع توجه الإدارة الأمريكية صنعا موقفا سياسياً، يكون كلاهما فيه رابحاً ،(win-win situation)  وتوقعوا بقاء الإسلاميين في السلطة  لعقود قادمة. ولكن هذا الوضع انقلب بعد 30 يونيو في الدولة العربية الأكبر وهي مصر، وأعقب ذلك موجة انحسار معادية للإخوان في ليبيا وتونس.


أعادت الولايات المتحدة حساباتها أكثر من مرة منذ 30 يونيو 2013 ، ولكنها لا زالت غير قادرة  على صياغة تصور جديد  لشكل علاقتها وأولوياتها مع مصر، وفي المقابل فإنّ مصر تشعر أنها تلقت طعنة من دولة حليفة، ليس فقط بسبب الضغوط الأمريكية على الحكومة المصرية منذ 2011 ومابعده، ولكن الأهم  هو الضغوط الأمريكية التالية للإطاحة بمرسي، والتي خلقت جدارًا من الشك بين دوائر السياسة في مصر والولايات المتحدة.


فهل الإدارة الأمريكية  لاتتصور سيناريو أفضل من هذا لحماية مصالحها؟ الأكيد أن هناك بدائل كثيرة أفضل .


ولكن ذلك موضوع لمقال قادم.