صور| سكان "مثلث ماسبيرو" : نعم للتطوير.. لا للتهجير
طرقات ضيقة، ملتوية، لا يتجاوز عرض أحداها نصف متر، تمتلئ برائحة الماضى التى تفوح من بين جدران المنازل الجيرية القديمة، التى ترك الزمن وبقايا حكايات البشر المتعاقبة آثرًا بارزًا عليها.
المنازل الصغيرة المتلاصقة، والشوارع الضيقة، زادت من قوة الترابط بين أهالى المنطقة، فضلا عن صلات النسب التى أصبحت تجمع بينهم بمرور الزمان، والتى جعلت أهالى الشارع الواحد وكأنهم أسرة واحدة، يفترشون طرقاتها نهارا بحثا عن نسائم الهواء، ويتشاركون همومهم وأفراحهم، وفي الأزمات يتحول سكان الحي لأسرة واحدة يجتمعون على قلب رجل واحد.
ورغم تهالك العديد من المنازل، وتناثر حجارتها في الطرقات البسيطة المرصوفة بالبلاط، إلا أن هذا التهالك زاد أهالى مثلث ماسبيرو تمسكاً بالبقاء في أرضهم التى ورثوها عن أجدادهم، ورفضوا كل مشروعات التهجير، حتى لو سقطت أحجارها فوق رؤوسهم.
على مدار أعوام عدة، يسمع الأهالى حكايات بيع الأرض لشركات سعودية وكويتية ومصرية، بمعرفة محافظة القاهرة، وأنهم بصدد ترحيل السكان، تمهيدا لبناء مشروعات استثمارية كبرى، نظرا لموقعها المتميز على نهر النيل، غير أن السنوات الأخيرة حملت إليهم رياح التغيير عندما بدأت عمليات تهجير سكان حارة محمد قاسم بالقوة، وإلقاء أثاث منازلهم في الشارع، بحسب رواية الأهالي.
فمساحة الأرض كما أعلنت محافظة القاهرة، تبلغ حوالي 72 فدانًا، تمتلك المحافظة منها حوالي 12% متمثلة في الشوارع والحواري، وتمتلك بعض الشركات الكبرى باقي المساحة وهي الشركة السعودية، والشركة الكويتية، وشركة ماسبيرو، إضافة إلى مساحات صغيرة كأملاك خاصة.
يقطنها ما يقرب من 5000 أسرة، كانت الحكومات المتعاقبة فيما قبل ثورة يناير وبعدها، تعمل على محاولة حل مشكلة الأرض، سواء بتهجير أهلها أو بإعادة توطينهم بعد بناء بعض المساكن لهم، حتى جاءت وزير التطوير الحضري والعشوائيات، الدكتور ليلي إسكندر، مؤكدة استمرارهم في مساكنهم، وتطوير المنطقة وإعادة توطينهم، ضمن مشروع تطوير القاهرة، وإقامة سلسلة من الفنادق والأبراج عملاقة على غرار أبراج دبي إلى جانب ترميم المناطق الأثرية.
وفي جولة ميدانية لـ"دوت مصر"، داخل المثلث الذي يجمع بين شارعي الجلاء و 26 يوليو، روي لنا الأهالي حكاياتهم مع المكان والمسئولين الذين تعاقبوا عليهم، فتارة يأتي المسئول حاملا لهم قرار الإخلاء بتعويضات يري معظم السكان أنها ضئيلة جدا بالنسبة لسعر الأرض في هذه المساحة، أو نقلهم في مساكن بديلة بمدينة النهضة أو الوادي الجديد وتارة أخرى يأتي القرار بالتطوير والإبقاء على السكان دون تهجير، مؤكدين أنهم ليسوا ضد الدولة ولكن كل مطالبهم تطوير المكان فقط.
يستقبلك شارع أبو طالب، المتفرع من شارع الجلاء، بمبني عريض يطلق عليه السكان "المجمع"، لكثرة حجراته والتى تصل إلى 40 حجرة، يعيش في كل واحدة منهم أسرة كاملة، توارثوها عبر الأجيال، حتى أصبح من أبرز معالم المثلث، والذي كُتب عليه "لا للتهجير نعم للتطوير".
عضو رابطة أهالى مثلث ماسبيرو، محمود شعبان، قال: نستخدم كل الوسائل للتعبير عن قضيتنا وأخذ حقوقنا حتى رسوم الجرافيتي.
وأضاف :ليست كل المنازل تحتاج للهدم فهناك عدد منها مازلت تحتفظ بجمالها ولا ينقصها إلا بعض أعمال الصيانة، وأخري تحتاج لترميم وزارة الآثار، وإدراجها على القوائم الآثرية، نظرا للطراز المعماري الذي تتميز به.
في حارة صغيرة متفرعة من شارع أبو طالب، افترش الجيران الشارع وكأنه جزء من مساكنهم، فلا تعرف أهي حارة شعبية قديمة، أم امتداد طبيعي للشقق السكنية، وبابتسامة دافئة سألتنا الحاجة فوقية ذو الستين عاما أو "أم الثوار"، كما يطلق عليها السكان: "أنتو تبع أي، كل شوية يجي حد من المحافظة أو التيلفزيون والصحافة ومفيش نتيجة بس احنا مش هانمشي".
وتتابع : "دي قصة جدودنا ودي أرضنا اللى اتولدنا فيها، واتجوزت وخلفت عيالى هنا، واتجوزوا جنبي هنا ومنعرفش غيرها ازاى ممكن نسيبها ونروح مكان تاني".
وعن دور المنطقة في ثورة يناير قالت: احنا وقفنا جنب الثورة من أول يوم، وحمينا الثوار اللى كانوا بيتسخبوا عندنا، وعملنا لجان شعبية، وحمينا الوزارات اللى حولينا والفنادق، وعمر ما حد أشتكي مننا، ابنولنا مساكن جديدة لكن مش هانشمي من هنا غير على جثثنا".
تضيف الحاجة فوقية صارخة :"لما كانوا بيبنوا كوبري 6 أكتوبر عرضوا علينا نمشي ورفضنا، ولما كانوا بيحفروا لمترو الأنفاق في التحرير كانت البيوت بتترقص بينا، وعرضوا علينا نمشي ورفضنا بردوا، وكتبنا إقرارات أننا نتحمل أى حاجة تحصلنا".
الجميع يري المثلث منطقة عشوائية لابد من إزالتها، رغم عدم توافر جميع المرافق من كهرباء وماء وصرف صحي، غير أن السكان فخورين بالحي الذي نشئوا وعاشوا فيه، ويتداولون قصصه وحكايته.
"من هنا خرجت أول ثورة مصرية في العصر الحديث في منطقة بولاق الدكرور ضد الحملة الفرنسية، وقائدها كليبر، والمعروفة بثورة القاهرة الأولى"، هذه إحدى القصص التى يتباهى السكان بها، ومنهم من يروي لك قصة ساحل الغلال، الذي كان يتجمع فيه كبار تجار الغلال بالقرب منهم لتوريد واستقبال الغلال من كل مكان، والذي كان من أكبر الموانئ المصرية، ومازال الموقع يُعرف بإسم الساحل.
يؤكد أعضاء رابطة أهالى مثلث ماسبيرو، أنهم طالبوا دومًا بتطوير وترميم المثلث، دون استجابة من المسؤولين حتى سقط مبنيان عام 2005، نتيجة سقوط الأمطار، غير أنهم اتهموا مسئولي الحي برغبتهم في ترك المنطقة دون ترميم، حتى تنتهي تدريجيا على "رؤوس" السكان، بحسب وصفهم، دون تدخل من الدولة، مما يسهل من عملية الإخلاء.
عضو رابطة أهالي مثلث ماسبيرو، محمود شعبان، قال إن المواجهات بين الأهالى وقوات الامن بدأت منذ هذا التاريخ، عندما صدر قرار باعتبار 60 منزلا ذو خطورة داهمة، مضيفا أنه تم إخلاء شارع محمد قاسم بالقوة لتنفيذ مشروع القاهرة 2050، والذي كان يتبناه جمال مبارك مع بعض رجال الأعمال، للاستيلاء على هذه الأرض لموقعها الإستراتيجي على نهر النيل.
ويري شعبان، أن ثورة يناير حولت قضية المثلث لقضية رأى عام، وجعلت بعض المسئولين يهتموا بصالح المواطن، وأصبح هناك بديل عن التهجير، وهو التطوير وإعادة توطين الأهالى، خاصة مع تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي طمأنهم على مستقبلهم بهذا المكان وضيع أمال "المنتفعين" من موظفي الحي، والمحافظة، وعدد من مؤسسات الدولة بالمتاجرة بقضية ماسبيرو مستغلين ضعف الأهالى لسنوات.
وأكد أن العديد من السكان البسطاء كان يقنعهم بعض الموظفين بالحي للتنازل عن مساكنهم، مقابل شقة جديدة في مدينة النهضة، والتى لا يتجاوز مساحتها 65 متراً، ونظرا لبعدها عن أماكن عملهم يبيعونها مرة آخرى تحت اشراف هؤلاء الموظفين أيضا.