الحجاب والإرهاب
مُسَايرةً للموجة التي لم تَعُدْ خافية على أي متابع لوسائل التواصل الاجتماعي، وكواحدة من مئات، وربما آلاف الفتيات اللائي اتخذن قرارًا بخلع غطاء الرأس، أفصحت إحداهن للشيخ خالد الجندي عن رغبتها في خلع الحجاب، ومن ثَمّ طلبت رأيه.
في معرض إجابته عن سؤال السائلة، التي جاءت محمولة على آليتين اثنتين للخطاب: التوهيم والإرهاب، بدأ الشيخ الجليل حديثه، لا بطرح مقدمة، يصل بها إلى النتيجة، كما يقتضي "المنطق" العقلي الرصين، بل بنتيجة صاغها في جمل صريحة في دلالتها: الله "فرض" الحجاب. الحجاب فرض، فرضه ربنا.. وكررها مرات عدة. فـ لنحلل معًا في هذا المقال خطاب الشيخ، كمثالٍ لما يقوم به كل المشايخ في تعاطيهم مع مسألة الحجاب، التي عادت لتطفو على السطح مرة أخرى، بعد أن انكشف المستور.
الآلية الأولى: التوهيم!
المُفترض بعد هذه المقدمة، التي انقلب فيها المنطق رأسًا على عقب، أن يأتي الشيخ بالأدلة القاطعة الواضحة على صحة ما قال، أدلة تُضاهي في صراحتها، آيات الفرائض الحقيقية في الإسلام، كالصلاة والصوم مثلاً. وبالفعل زعم الشيخ أنه يملك أدلة عدّدها بأنها: لفظية، ولغوية، وشرعية، وتاريخية، ونبوية، وبحسب ما قال حرفيًا: "غير بقى إجماع الأمة يعني"!
فما هي تلك الأدلة المزعومة؟
أول دليل قدمه هو جزء من الآية 31 من سورة النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ.. ).
لاحظ أولاً أنه سُئل عن الحجاب، فأتى بدليل ليس فيه كلمة الحجاب، بل "الخمار"، رغم أن كلمة حجاب ذُكرت في القرآن نحو سبعِ مرات، لكنّه قال: كلمة خمار تعني كل ما خامر الرأس، وأن الآية كانت موجهة للمؤمنات الواضعات للخمار أصلاً، يريد بها اللهُ – بحسب كلامه – "أن يقول للستات اللي مغطيين راسهم، أن يُطيلوا الخمار كي يغطي الصدر، وبقية الفتحات اللي موجودة في الجسم".
وما إنْ طرح الشيخ هذه الآية، التي يزعُم أنها دليل على فرضية الحجاب، إلا واكتشف سريعًا أنه قد وضع نفسه في مأزقٍ بالغ الحرج، ليس فقط لأن الآية لا تفرض وضعًا جديدًا بل تُعدّل من وضعٍ قائم، لكن لأنها، ووفقًا لما طُرح، تعني فرضية النقاب وليس الحجاب، لأن إطالة غطاء الرأس كي يُغطي كل فتحات الجسم لن يحدث إلا عبر تغطية الوجه، وهو ما عاد الشيخ ليُقر به سريعًا حين قال: "مفردة الحجاب المتداولة في مصر على أنها تعني غطاء الرأس، تعني في السعودية: غطاء الوجه، ونحن نقول إنه ما من شك أن الفهم السعودي للمفردة أوقع وأصح".
عند هذا الحد؛ يتوجب علينا أن نطرح سؤالين:
الأول: إذا كان هناك خلافٌ لُغوي بين شعبين متجاورين، في فهم مُفردة الحجاب، التي تعني في مصر غطاء الرأس، بينما تعني في السعودية غطاء الوجه، فمن أين جاء الشيخ بمقولة إجماع الأمة؟ عن أي إجماعٍ يتحدث وهو يُقر بأن معنى الكلمة نفسه عليه خلاف؟
والإجابة: أن إجماع الأمة المزعوم لا وجود له على الإطلاق، هو مجرد وهم في خيال المشايخ، هذا إنْ افترضنا حُسن النية، فالأمة التي اختلفت على مسائل من نوعية هل المعوذتان من القرآن أم مجرد دعاء للنبي؟ لا يُمكن أن تتفق، بحالٍ، على أمرٍ تحكُمه الأعراف والتقاليد، فالحجاب، كما أقر الشيخ خالد، من حيث لا يقصد، ليس أكثر من مجرد عُرف، يختلف في شكله من شعب إلى آخر، بينما المقصد من الآية هو تغطية الجيوب، أو فتحات الجسم، كفتحة الصدر، كما قال ابن كثير في تفسيره للآية التي أوردها الشيخ.
السؤال الثاني: إذا كان الفهم السعودي، للمفردة أقرب للصحة، فلماذا لم يمتلك الشيخ الجرأة ليقول إنّ غطاء الوجه فرضٌ؟
الإجابة: لأن فضيلته يعلم- علم اليقين- أنه إنْ قال ذلك فلن يؤخذ قوله مأخذ الجد، بل الهزل بلا ريب، فالفتيات في مصر الآن لم يعُدن يقبلن بغطاء الرأس أصلاً، فهل يقبلن بغطاء الوجه؟ لذلك آثر الشيخ أن يحفظ ماء وجهه على أن يتندر عليه أحد ويَعِدُّ كلامه أضحوكةً أو شططًا، بكلمات أخرى؛ فضل الشيخ أن يُراعي ظروف المجتمع وواقعه والتغيرات التي تحدث فيه حين تعلق الأمر بصورته هو، بينما رفض نفس المبدأ حين تقاطع مع رغبته في فرض ما يريد على الناس.
عدَّد الشيخ أصحاب الصحاح والمسانيد، والتفاسير، ومنظري الفقه، ثم تحت قنبلة من دخان كثيف، قال إنهم أجمعوا على فرضية الحجاب، بيد أنه تعمد ألا يُفصحَ لنا أي حجابٍ يقصد، الحجاب السعودي أم المصري، غطاء الرأس أم غطاء الوجه؟
وقد رأينا للتو أنّ ادعاءه يُخالف قول ابن كثير، الذي نقل عن سعيد بن جبير قوله: "يضربن بخمرهن على جيوبهن" يعني على الصدر والنحر، ولأن هذه الجزئية يطول شرحها سأكتفي بنُتُفات قليلة في تفنيد زعم شيخنا الجليل.
ودعونا نبدأ من حيث تعمد هو الصمت لنقول إنّ الحجاب المقصود، الذي أجمع عليه الفقهاء، هو غطاء الوجه، الذي يقول فيه ابن تيمية – الذي استشهد الشيخ بكلامه - ضرب الحجاب على النساء لِئَلا تُرى وجوههن وأيديهن. وكان الحجاب مختصًا بالحرائر دون الإماء.. فـ كانت "سُنّة المؤمنين" في زمن النبي وخلفائه: أن الحُرَّةَ تحتَجِبُ، والأَمَة تبرُز. وكان عمر إذا رأى أَمَةُ "مُختَمِرة" ضرَبها وقال: أتتشبهين بالحرائر؟! (1).
لاحظ قول ابن تيمية "سنة المؤمنين"، أي عرف المجتمع، فهو لم يقل سُنّة النبي! وفي موضع آخر، أكثر وضوحًا، يقول: كانت "عادة المؤمنين" أن تحتجب منهم الحرائر. ونقل البيهقي عن إماء عمر بن الخطاب قول أنس بن مالك فيهن: كُنَّ يَخْدِمْنَنَا كَاشِفَاتٍ عَنْ شُعُورِهِنَّ، تَضْطَرِبُ ثُدِيُّهُنَّ.(2)
لاحظ؛ لم تكن شعورهن فحسب هي المكشوفة، بل كانت أَثْداؤهن تتخبط أو ترتج. لماذا؟ أظن الجواب واضحًا!
لهذا السبب؛ تختلف عورة الأَمة عند الفقهاء عن عورة الحرة. فعورة الأمة من السُّرة إلى الركبة فقط، وهو قول اتفق عليه الحنابلة وأتباع مالك والشافعي، ولم يشذ عنهم فيه سوى ابن حزم.
إذن؛ فصدر الجارية مثلاً – وهو مصدر للفتنة لو تعلمون عظيم - ليس عورة عندهم، بل يُمكن تحسسه ولمسه، وقد جاء في حديث ابن عمر: أنه إذا اشترى جارية كشف عن ساقها ووضع يده بين ثدييها وعلى عجزها، وكأنّه كان يضعها عليها من وراء الثياب.(3)
هذه الأدلة النقلية التي يعشقها المشايخ، تعني بما لا يدع مجالاً للشك أن علة "الفتنة" المزعومة، لفرض غطاء الرأس، لا أصل لها على الإطلاق، وإنما الأصل في القضية هو حل مشكلة مجتمعية عصرئذ، لم تعد قائمة أصلاً، فالفتنة لا فرق فيها بين أَمة وحرة، فكما للحرة مفاتن للأَمة أيضًا، اللهم إلا إذا كان الإسلام الذي يعنيه المشايخ لا يعتبر الإماء من فصيل البشر، ونحن ننزهه عن ذلك بكل تأكيد.
الآلية الثانية: الإرهاب!
بديهي، في ظل أدلة واهية مزعومة، ورغبة في قهر الأنثى محمومة، أن يلجأ المشايخ إلى إرهابها وتخوفيها بشتى الطرق، ذلك لأن الحجج النقلية والعقلية، لن تُسعفهم في فرض ما يريدون، وهو بالضبط ما فعله شيخنا الوقور، ويفعله كل زملائه، فما إنْ انتهى الشيخ من الإدلاء بنتيجته التي سبقت طرح أدلته حتى قال: فمن تريد أن تخلع الحجاب، فعليها الاستئذان من الله سبحانه وتعالي، وعليها أن تستعد بالمبررات التي من شأنها أن تقنع الله بها يوم الحساب، وهي عبارات تخللها مماهاة من الشيخ بين الحجاب وبين الصلاة. وبين خلع الحجاب، والكفر، حتى لو على سبيل ضرب المثل!
ثم في نهاية جوابه عن السؤال قال: "أي واحدة شاكة إن شعرها عورة تقف في أوضة وتقفل على نفسها الباب بالمفتاح.. فإنّ استطاعت أن تصلي وشعرها مكشوف فإن شعرها ليس عورة، وإن عجزت عن الصلاة وشعرها مكشوف، فذاك إقرار أن شعرها عورة.
ونحن على يقين أن الشيخ يعلم أن صلاة المرأة مكشوفة الشعر جائزة، لكن ما لا نعلمه هو لماذا يخفي علمه، ولعله لا يقصد بذلك سوى الحيلة، بغرض الترهيب المعنوي، فالإمام الشافعي قد أجاز صلاة الأمة مكشوفة الشعر.(4) وعن أبي حنيفة قال: تصلي الأمة بغير قناع ولا خمار. (5) بل إن بعض تلاميذ أبي حنيفة قالوا: يجوز صلاة الأمة، والْمُدبرَة وَالْمُكَاتبَة وأم الْوَلَد، ليس مكشوفات الشعر فحسب، بل مكشوفات الساقين والصدر أيضاً. (6)
ويقول الزركشي، وهو حنبلي المذهب: صلاة الأمة مكشوفة الرأس جائزة.(7) ويقول ابن قدامة: يُكره أن تنتقب المرأة وهي تصلي (أي تلبس الحجاب)، وصلاة الأمة مكشوفة الرأس جائزة، هذا قول عامة أهل العلم.(8) وفي الممتع على زاد المستقنع: لو صلَّت الأَمَةُ مكشوفة البدن ما عدا ما بين السُّرَّة والرُّكبة، فصلاتها صحيحة، لأنَّها سترت ما يجب عليها سَتْرُه في الصَّلاة.
ولئن كان فقهاء السلف، الذين لا يقبل مشايخ عصرنا أن يحيدوا عن اجتهادهم قيد أنملة، يفرقون بين أحكام الحرة والأمة، حتى في الصلاة، إلا أننا أوردنا تلك الأحكام لنُثبت بها أن الصلاة بدون غطاء للشعر ليست كفرا، ولا بدعة، بل واقع، ظلت تمارسه ملايين النساء "المسلمات" في العالم العربي لما يزيد عن ثلاثة عشر قرنا، وإذا كان رب الحرائر والإماء واحدا، فلا شك أن تقبله سبحانه وتعالى لصلاة الأمة مكشوفة الشعر، يعني تقبله أيضاً لمن تريد ذلك في عالم انتفى فيه وجود الإماء، فالله لا ينظر لمظهر عبده أثناء الصلاة، الله ينظر إلى نيته، لا هيئته!
وبعد كل هذا الترهيب المعنوي، الذي ضغط به الشيخ على السائلة، ومن خلفها ملايين الفتيات عبر الشاشات، ادعى أنه فقط يُبين وينصح، ولكن تبقى كل فتاة "حرة" في أن تخلعه أو ترتديه، وكأنّ الأمر بعد كل هذا الترهيب يُمكن حسبانه كمسألة "حرية شخصية" .
في الواقع؛ إن ارتداء الحجاب، ناهيك عن خلعه، لم يكن يومًا حرية شخصية، لأنه لم يكن يوماً اختيارا، بل إجبار، فُرض باستخدام كل وسائل الترهيب والتهديد، بداية من الثعبان الأقرع، ووصولاً إلى المياه الحارقة.
حدث ذلك في حِقْبة الثمانينات، وبعيداً عن كيفية فرضه، يكفيك فقط الإجابة عن السؤال التالي: هل ارتداء الحجاب كخلعه؟! قطعاً الإجابة لا. فالضغوط المجتمعية التي تقع على اللائي يخلعنه ليست بهينة، وكي تعلم مدى ما يسببه من قهر، يكفيك أن تتابع تعليقات المصريات على صفحات اللائي خلعنه بالفعل، والتي تأتي دائمًا محملة بالتهاني والتبريكات، وذلك أمر مرده أن الحجاب سجن، حُشرت فيه المصريات قهرًا وغصبًا، رغماً عن إرادتهن وأنوثتهن وفطرتهن، سجن يستدعي الخروج منه أن يُقابلَ بالقول: مبروك، بل ألف مبروك أحيانًا!
المصادر:
(1) مجموعة مجموع الفتاوي لابن تيمية. مجلد 15 صـ 372 ورسائل في الحجاب والسفور. صـ 26.
(2) أبو بكر البيهقي. معرفة السنن والآثار. المجلد الثالث. صـ 146 وانظر أيضاً نفس الموضوع عند بن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. مجلد 1 صـ 521.
(3) السنن الكبرى، للبيهقي. المجلد الخامس. صـ 537. الحديث رقم 10789 وانظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني. المجلد السادس صـ 201.
(4) البيهقي. معرفة السنن والأثار. مجلد 3 صـ 143
(5) الآثار. الامام الحافظ ابي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني. المجلد الأول صـ 610
(6) النتف في الفتاوى. أبو الحسن علي بن الحسين بن محمد السُّغْدي. المجلد الأول. صـ 84
(7) شرح الزركشي. المجلد الأول. صـ 622
(8) المغني لابن قدامة. المجلد الأول صـ 432