التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 04:55 م , بتوقيت القاهرة

وسطية الإسلام في التعامل مع الآخر

من القضايا التي تباينت حولها الآراء قديمًا وحديثًا قضية علاقة المسلمين بغيرهم من أصحاب الدِّيانات الأُخرى، والذي نراه هو أنَّ السِّلم التفاعليَّ الدَّعويَّ بين المسلمين وغيرهم هو الأصلُ في علاقة المسلمين بغيرهم، أمَّا السِّلمُ السَّلبيُّ الانعزاليُّ فلا يصحُّ بحالٍ أن يكُون أصلًا للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، فالأمةُ الإسلامية أُمةٌ رسالية، تعتقد أنَّ الله ابتعثها لإيصالِ الرسالة الإسلامية إلى الأُمم الأُخرى، فالعلاقةُ بين المسلمين وغيرهم تنبني في أساسها ومصدرها على الدعوة، ومقتضى ذلك أنَّ العلاقات بين المسلمين وغيرهم تنشأُ وَفقًا لمعادلة مفادها: أنَّ الدولةَ الإسلامية إذ تؤمن بعقيدة عالمية، يكون لزامًا عليها إيصالُ هذه الدَّعوةِ واضحةً نقيةً إلى جميع غير المسلمين في الأرض، دُولا كانوا أم شعوبًا، وأنَّ موقف المخاطبَين بالدَّعوة منها يُحدد أشكالَ هذه العلاقةَ وحركةَ تطورها.
ويترتبُ على ذلك أنَّ الصَّبرَ وتحمل الأذى والصَّفح والإعراض والدَّعوة بالقلم واللِّسان، كُلُّ هذه أدوات أو وسائلُ للدَّعوة، يُستعانُ بأيٍّ منها ويُصار إليه حسبما تقتضيه الظُّروف.
واعتبارُ الدَّعوةِ مناطًا للعَلاقاتِ الخارجية للدَّولةِ الإسلامية، يجدُ له سندًا قويًّا وثابتًا في كافة المصادر الأصُولية للشريعة الإسلامية.
فآياتُ القرآن الكريم التي تؤكد فرضية الدعوة من جانب وتعدد وتنوع الوسائل والأدوات التي يُستعان بها في الإيصال والتبليغ، ومن هذه الآيات قوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" [آل عمران: 110].
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" [المائدة: 67]
"قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف: 108]
ففرضية الدَّعوةِ على الرَّسُول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وعلى أتباعه إلى يوم الدين.
وكذلك ما يدلُّ عليه قوله تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز" [الحج: : 39، 40].
من أنَّ إخراج المسلمين من ديارهم كان بسبب إيمانهم بربهم ومواجهتهم لدولة الباطل وقوى الشِّرك من أجل حماية حرية الاعتقاد، وأنَّ ذلك ينهضُ سببًا كافيا للإذن لهم بقتال المشركين.
وإلى جانب ما تتضمنه الآية من بيان سبب الإذنِ بالقتال وأَنَّه في ذلك مرتبطٌ بالدَّعَوةِ، فإنَّ فيها أيضًا دليلًا على ضَرورةِ أنْ تكُون وسيلةُ الدَّعوة ملائمةً لواقع المسلمين، وما يتفق مع قدراتهم المالية والمعنوية.
فالإذنُ بالقتال في هذه الحالة التي تشيرُ إليه الآية، قد جاء في الوقت الأليق به؛ لأنه وقتَ أنْ كان المسلمون بمكَّة كان المشركون أكثر عددًا، ولو أُمر المسلمون بقتالهم لشقَّ عليهم؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب رسولَ الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بيعة العقبة وكانوا نيِّفًا وثمانين، وأرادوا الإغارةَ على أهل "مِنى" منعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ لأنَّهُ لم يؤمر بهذا.
فلما بغى المشرِكُون وأخرجُوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله وشرَّدوا أَصْحَابَه، حتى استقرَّ المقامُ للدولةِ الإسلاميةِ في المدينة، أَذِنَ الله للمسلمين في جهاد الأعداء وقتالهم؛ فالمحلُّ أو السَّبب في كُلِّ ما لاقاه المسلمون من اضطهاد وتعذيب على أيدي المشركين، وما ترتب عليه من الإذن في القتال يكمن في أنَّ المسلمين وحَّدُوا ربَّهم وعبدُوهُ وحدَهُ لا شريك له، حسبما يؤكده القُرآنُ في قوله تعالى: "يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" [الممتحنة: 1]
وفضلاً عما سَبَقَ فإنَّ قوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" [يونس: 99]
وقوله تعالى:  "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 256]
هذه الآياتُ تدل على أنَّ الدين هدايةٌ اختيارية للناس تعرّض مؤيدة بالآيات والبينات، وأنَّ الإكراه ممنوعٌ، وأنَّ العُمدة في دعوة الدين بيانُهُ؛ حتى يتبين الرُّشد من الغَي والهُدى من الضَّلال، وأنَّ النَّاسَ مُخيَّرون بعد ذلك في قبوله أو تركه.
وهذه الآياتُ تدلُّ أيضًا على أنَّ القتال إنما شُرع لتأمين الدعوة ولكفِّ أذى الكافرين عن المؤمنين، فلا يزعزعوا الضَّعيف في إيمانه ولا يفتنوا القويَّ في دينه؛ فانتفاءُ الإكراهِ قاعدةٌ كُبرى من قواعد الدِّينِ الإسلاميِّ، ورُكنٌ عظيمٌ من أركانه، والجهادُ في سبيل الله بمعناه الخاصِّ، لا يعدُو أن يكون سياجًا للدَّعوة الإسلامية وحماية لها.
وإلى جانبِ آياتِ القرآنِ فالأحاديثُ النبويةُ وكتبُ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى أُمراء وملوك البُلدان غير الإسلامية، كلُّ ذلك يؤكد على أنَّ الدَّعوة هي مناطُ العَلاقاتِ بين المسلمين وغيرهم، وأول ما يَردُ في هذا الصَّددِ قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلم لعمِّهِ أبي طالبٍ وهو يعرض عليه ما طرحته قريش: «والله لو وضعوا الشَّمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتَّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته".
كما تدلُّ كتبُهُ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى حُكَّام ومُلوك الدُّول المجاورة أنَّ الدَّعوة تُشكِّلُ التزامًا على عاتق المسلمين تجاه غيرهم.
فمن هذه الكتب؛ كتابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: "من محمد رسول الله إلى صاحب الرُّوم إني أدعُوكَ إلى الإسلام فإن أسلمتَ فَلَكَ ما للمُسْلِمِينَ وعليك ما عليهم، فإنْ لم تدخل في الإسلامِ فأعطِ الجزية.. وإلا فلا تحُلْ بين الفَلَّاحِينَ وبين الإسْلَام أنْ يدخلُوا فيه أو يعطُوا الجزية".
وبعثَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم عبد الله بن حُذافة بن قَيس بن عدي بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب معه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كِسْرَى عظيم فارس، سلامٌ على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أنَّ لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وأدعُوك بدُعاء الله؛ فإنِّي أنا رسُولُ الله إلى النَّاسِ كافة؛ لأُنذرَ من كان حيًّا ويحقَّ القولُ على الكافرين، فإن تُسلِمْ تَسْلَمْ، وإن أبيت فانَّ إثم المجوس عليك".
ومن أبلغ الدَّلائلِ على كَون الدَّعوةِ مناطَ العَلاقة بين المسلمين وغيرهم، ما ثَبت في السُّنة المشرَّفة من أنه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم كان إذا بعث بعثًا قال: "تألفُوا النَّاس وتأنُّوا بهم ولا تُغيروا عليهم حتى تدعُوهم؛ فما على الأرض من أهل بيت مَدَرٍ ولا وبر إلا وإن تأتوني بهم مسلمين أحبُّ إلى من أن تقتلوا رجالهم وتأتوني بنسائهم".
وتتبع كتب الحديث والسِّيرة يكشفُ لنا عن أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لم يتوقف عن إرسالِ الوفُود والدُّعاة إلى غير المسلمين لتعليمهم القرآن وأحكام الإسلام، ولم يكن يُثنه عن ذلك قتلُ أعضاء هذه الوفود أو إنزالُ شَتَّى صنوف العذاب بهم، وهذا يدلُّ على فرضية وسمو الالتزام الخاص بنشر الدعوة الإسلامية والمصابرة عليها، مهما لاقى المسلمون في ذلك من مشاق، باعتبارها تدور وجودًا وعدمًا مع وجود غير المسلمين في الأرض.