التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 12:25 م , بتوقيت القاهرة

رحلة صيدلي إلى "أديس أبابا"..قصة البلد الأخضر الذي لا نعرفه

لا نعرف عن إثيوبيا سوى قصة المياه، باتت إثيوبيا الخوف الإفريقي الذي نضعه في حسباننا، وبتنا لا نعرف عنها سوى القليل القليل، وربما هذا القليل يعمق من خوفنا تجاه الآخر، هذا القليل الذي لا نعرفه، سبب في تشكيل الصور الغامضة في مخيلتنا، بما يشوه الصور الحقيقية، لذلك كانت رحلة الكاتب والقاص "ميشيل حنا" الصيدلي الذي قرر الذهاب إلى إثيوبيا بنفسه، وسجلها في كتابه "تحياتي من أديس أبابا" الصادر حديثا عن دار "دلتا للنشر والتوزيع.


تحياتي من أديس أبابا


يفتتح ميشيل كتابه بهذه العبارة الخاطفة: ستسألني وما الذي ذهب بك إلى إثيوبيا.


عبارة تقودك مباشرة إلى قلب موضوع الكتاب، وتأسرك حتى تفرغ من قراءته، عبارة استهلالية ناجحة، لا يستخدمها إلا قاص وكاتب يعرف من أين يأسر قارئه، وهكذا ندخل إلى كتاب ميشيل وحكاياته عن رغبته في الانضمام إلى هيئة طبية خيرية، تقوم بتقديم خدمات علاجية مجانية لغير القادرين في الدول النامية.


ميشيل حنا مؤلف كتاب تحياتي من أديس أبابا


ينضم ميشيل للقافلة، ويقضي 10 أيام في الأحراش الإفريقية يرصد فيها رحلته الممتعة، يكتب مؤلف الكتاب في صفحاته الأولى عن هواجسه من السفر، وعن فوائده، عن قلقه من مسألة الملاريا، وكأن إفريقيا ارتبطت في أذهاننا بالمرض، والأوبئة، تشعر من نبض الكتاب، الصورة النمطية السلبية التي تكونت داخلنا تجاه إفريقيا، صفحات كتاب ميشيل أعادتني أنا أيضا للمرة الأولى التي سافرت فيها إلى دولة زامبيا عام 2010، وقتها كنت متوجسا من قائمة الأمراض الإفريقية، وبحثت كثيرا عن التطعيمات التي يجب أن أتلقاها، أو الأدوية التي يجب أن اصطحبها معي في رحلتي، هنا أيضا يحدثنا ميشيل عن قلقه من الملاريا، والمعلومات المتضاربة التي يقدمها الإنترنت بشأن طرق الوقاية، أو التطعيم الناجحة.


3 ساعات إلى إثيوبيا..الاكتشاف الأول فى مطار أديس أبابا


يصف ميشيل في ثاني فصول الكتاب، مطار أديس أبابا، المعروف بمطار "بولي الدولي" مشيرا بلغة بسيطة إلى أنه ينتمي لحقبة زمنية أخرى، يرجح مؤلف الكتاب أن يكون هذا المطار هو نفسه مطار الكويت القديم، وقد تم تفكيكه ومنحه لإثيوبيا، ومع ذلك هو ثالث أكبر مطارات إفريقيا من حيث المساحة.


البلد الأخضر..أشجار في كل مكان..التربة بركانية حمراء


من الفصول الممتعة في الكتاب، التي يصحبنا فيها مؤلفه بجمل وصفية، تلخص ما رأته عيناه، ذلك الفصل الذي لا يمر فيه ميشيل حنا مرور الكرام على الملحوظات التي تبدو لأي منا بسيطة لا تستدع التعليق، أو الكتابة، ومنها شكل المدينة، إذ يلحظ ميشيل ويسجل بعين خبيرة، كيف تنتشر الخضرة في كل مكان في أديس أبابا، وربما مع كون ذلك حقيقة متوقعة، إلا أن طريقة وصف ميشيل لها، يجعلنا نراها كأنها سر نكتشفه للمرة الأولى، يقول مؤلف الكتاب: أول ملاحظة تلتقطها في إثيوبيا، أن البلد أخضر تماما، أخضر بشكل مبهج، ومثير للحسد.


يصف ميشيل حنا الأشجار التي لم يراها من قبل، التي تتفرع إلى أعلى بطريقة الصبار، وتلك التي تتدلى منها ما يشبه حيوط محملة بورد أحمر، يصف التربة البركانية الحمراء، شديدة الخصوبة، والأمطار الوفيرة، كما يحكي عن حركة الإنشاءات الملحوظة، وكذلك المباني الأوروبية عيقة الطراز، في الأجزاء الأقدم من المدينة.


كاتدرائية مخلص العالم


"أديس أبابا"..الزهرة الجديدة


يحكي ميشيل قصة تأسيس "أديس أبابا"..يقول في مستهل الفصل الرابع: عام 1887، وقفت الإمبراطورة تايتو في شرفة القصر الإمبراطوري على الجبل، وفكرت: لم لا نبني مدينة جديدة هنا، وليكن اسمها "أديس أبابا"؟


أديس في اللغة الأمهرية تعني جديد، بينما "أبابا" التي تنطق "ابيبا" تعني زهرة، أي أن اسم العاصمة يعني "الزهرة الجديدة"، واستجاب الإمبراطور مينيليك الثاني، لرغبة زوجته، وهكذا تم تأسيس عاصمة إثيوبيا الجديدة، التي حلت محل العاصمة القديمة "إينتوتو".


نشعر في هذا الفصل دفء وعذوبة من نوع خاص، هنا يقدم مؤلفه معلومات عن المدينة، وعن درجة الحرارة، في قالب عذب، فلا نشعر أننا نمسك كتابا سياحيا، يحكي ميشيل عن درجة الحرارة التي تتراوح بين 17 و22، وفي المساء تتراوح بين 11 و14 درجة، يمكنك أن ترتدي ملابسك الصيفية في الصباح، وتضيف إليها جاكيت في المساء، وغالبا لا يكون هناك داع لهذا الجاكيت.


يقارن أيضا مؤلف الكتاب بين مصر وإثيوبيا في المساحة، وتعداد السكان، ويلفت إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الإثيوبي يقل جدا مقارنة بمصر، يشدد مؤلف الكتاب على مشكلة الفقر التي تعاني منها إثيوبيا، ويشير إلى كثرة الشحاذين في شوارع أديس أبابا، رآهم المؤلف في الأماكن التجارية والميادين، ويفترشون الأرض أسفل الكباري بأعداد كبيرة، يحذر ميشيل من الإحسان للشحاذين هناك، يقول: كان قد تم التنبيه علينا ألا نعطي شيئا للشحاذين، لأن هذا ضد القانون، كما أنه سيجلب تجمعهم حول المُحسن، مما يخلق ما يشبه المظاهرة ويوقع صاحب الإحسان في مشكلة حقيقية.


من شوارع أديس ابابا


في إثيوبيا.. اليوم يبدأ من الفجر..وينتهي المغرب


لا يعني ذلك أن الإثيوبيون يستيقظون في الفجر ويعملون حتى المغرب، لكن يعني أن أول ساعة في اليوم تبدأ فجرا، وليس منتصف الليل، كما هو معهةود يلحظ مؤلف الكتاب، عدم انضباط الساعات التي وقعت عليها عيناه منذ وصوله، ساعة السيارة التي أقلته من المطار، ساعة كنيسة أثرية، ثم تنبيه صديقه المتعدد على أحد السائقين بالمرور عليهم في موعد محدد، ثم يكتشف بعدها أن إثيوبيا لديها نظام آخر لمعرفة الوقت، لا يبدأ اليوم من منتصف الليل، إنما من الفجر، حتى مغيب الشمس، هذه هي دورة ساعة اليوم في إثيوبيا، والتي تخالف الدورة المعهودة للوقت، التي تبدأ من منتصف الليل، إلى منتصف النهار، ثم من منتصف النهار، إلى منتصف الليل، أي أن اليوم الإثيوبي لم يزل متبعا ذلك التوقيت الذي كان مستخدما في أيام المسيح، كما يوضح مؤلف الكتاب ، الذي يشرح الفكرة أكثر بقوله: تتحدث الأناجيل عن أن المسيح قد صلب في الساعة السادسة من النهار، أي الساعة الثانية عشرة ظهرا، وهو التوقيت الذي لم تزل تستخدمه الكنيسة القبطية في ترتيب الصلوات.


يحكي ميشيل حنا أيضا عن مفارقة لطيفة عن الوقت، وهي أن توقيت السنين مختلف أيضا، إذ أنهم لا يزالون يعيشون عام 2010، وليس عام 2018 أو بحساب مؤلف الكتاب الذي كان هناك عام 2013، وجدهم يعيشون في 2005.


يعلق ميشيل على هذه المفارقة بقوله: تقدم لك إثيوبيا آلة زمن مجانية، تعود بها إلى الوراء، سبع سنوات وبضعة أشهر، بمجرد أن تهبط إلى المطار، الأمر الذي لا يستطيع أن يوفره لك أي بلد آخر، لهذا ففي 12 سبتمبر عام 2007، أقيمت في إثيوبيا احتفالات كبيرة بمناسبة الوصول لسنة 2000.


كنيسة القديسة مريم


البلد الذي يتداول أهلها عملات ممزقة ولا يجدون غضاضة في ذلك


من بين الأمور الشيقة التي يتوقف عندها ميشيل حنا في كتابه الجميل، والمهم، شكل العملة الإثيوبية، وحالتها الرثة، يصف ميشيل العملة التي تسمى "برّ" والتي وجدها دائما ذات لون واحد، ولا تخرج صورها عن مناظر للحرف التقليدية، ولا تحتفظ بما يوثق طبيعية البلاد التاريخية، مثل العملات المصرية، التي على أحد أوجهها صورة معبد، وعلى الوجه الآخر صورة مسجد.


كما أن العملات الإثيوبية تعاني من سوء حالتها وفقدان أجزاء كبيرة منها، قد تصل إلى ربع الورقة النقدية، لكن الناس مع ذلك يتقبلون هذه العملات كأمر مسلم به، ولا يرفضونها أبدا في معاملاتهم المالية، مهما كان حجم الجزء المفقود من الورقة.


تشاكنا تيبس إحدى أواني تسوية اللحم المشوي


أما الطعام، فهو جيد، ورخيص جدا، يحكي ميشيل عن الخبز الإثيوبي المسامي والمجوف من الداخل، ويربط بينه وبين الأطعمة الإثيوبية التي تتكون أغلبها من المرق والصلصات، يقول ميشيل: يلتقط هذا الخبز هذه الصلصات في مسامه أثناء "التغميس".


اللحوم رخيصة، يمكنك أن تأكل طبقا كبيرا ومحترما من اللحوم المشوية مع السلاطات والأطباق الجانبية ثم أطباق الحلو، ثم تشرب ما تشاء من القهوة ولن تزيد الفاتورة بحال عن مائتي برّ، أي حوالي 65 جنيه، الأمر الذي يكلف في القاهرة حوالي ثلاثة أضعاف هذا المبلغ.


وإن كانت هذه الأسعار رخيصة في نظر مؤلف الكتاب، فهي قطعا ليست كذلك بالنسبة لأهل هذا البلد، الذي يعاني من الفقر الشديد وانتشار الشحاذين حسبما رأى مؤلف الكتاب، الذي يستدرك في فقرة أخرى: رغم الانخفاض النسبي في أسعار الطعام، إلا أنها تعتبر غالية بالنسبة لأعداد كبيرة من الناس، حيث يقع ما يقرب من نصف السكان تحت خط الفقر، وتحتل إثيوبيا المركز الرابع عشر في قائمة 2012 لأفقر دول العالم.


الخبز الإثيوبي


يحكي ميشيل حنا في الفصول التالية من الكتاب عن عمله ضمن الفريق الطبي في الكشف عن المسنين، أو الأيتام، أو نزلاء الملاجئ، هنا جانب كبير من الحياة، يكشفه الكتاب، معاناة الناس مع الخدمات الأساسية اللازمة لحياتهم، الخدمات الطبية واحدة من بين هذه الخدمات، يلمس الكتاب أوجاع الناس التي تعاني من العوز لكل شيء، نكتشف أننا أبناء أسرة واحدة، هي الأسرة الإنسانية، التي يعاني بعض أفرادها من مشكلات فائقة الخطوة، ومع تقدم القارئ في صفحات الكتاب، يلمس مع مؤلفه أنه ربط بين ما شاهده من فقر في الخدمات الطبية المقدمة لفقراء إثيوبيا، وفقراء مصر، ليخلص بنتيجة أن فقراء مصر في غاية الترف إذا قارناهم بفقراء إثيوبيا، لكن ما يخفف على هؤلاء- فقراء إثيوبيا- جمال الطبيعة التي يعيشون فيها.


بالطبع لا يخل الكتاب من إشارات ممتعة إلى العلاقات التاريخية بين مصر وإثيوبيا، وحملات محمد علي التي وصلت إلى السودان، وكادت أن تنطلق إلى الحبشة، وقلق حكام إثيوبيا من التوسع المصري، بعد ضم أراض كثيرة تدعي إثيوبيا ملكيتها. يحكي ميشيل عن حربين خاضتهما مصر ضد إثيوبيا، الأولى هي معركة جوندت التي تعرضت فيها القوات المصرية للسقوط في فخ أعده الإثيوبيون، والمعركة الثانية التي تحمل اسم "جورا" المعركتين كانتا على التوالي عامي 1875، و1876، ونتيجتهما لم تكونا في صالح التمركز المصري هناك، الذي جاء نتيجة رغبة الخديو إسماعيل في التوسع في الحبشة، وفشل هذا المسعى نتيجة تكاثر الديون، وعزله بعد ذلك، وتدخل الدول الدائنة لدى إثيوبيا لوقف الغارات على الحدود المصرية معها، وهو مالم ينجح في النهاية إذ رأى الإثيوبيون الوجود المصري على حدودهم تهديدا كبيرا لهم.


كتاب ميشيل حنا، رحلة إلى بلد انحصرت معلوماتنا عنها في مخاوفنا، وتربصنا لها، نحتاج لقراءة ما كتبه ميشيل عن هذا البلد، لنلمس بأنفسنا عبث الصورة الشائعة التي كوناها عن العديد من البلاد الإفريقية، ومنها إثيوبيا، التي انحصر وجودها في إعلامنا، في قضية المياه.