محمد الموجي والعندليب.. ملحن وقع في غرام صدى صوته حتى "الاحتباس"
يدندن محمد الموجي بينه وبين نفسه، يركّب لحنًا آخر على هذه الأغنية ويعدّل جملةً لحنيةً لأخرى، يفعل ذلك على السواء مع الجميع، لا ترهبه هيبة الأسماء ولا نجوميتها التي تصل حد القداسة، حتى أغاني أستاذه محمد عبد الوهاب ليست استثناء أو منطقة محرمة، يجرّب ويلعب بالألحان كلعبه في حقول كفر الشيخ المنعشة الطازجة المتلوّنة بالجديد كل صباح، حقول رحبة مفتوحة على أفق بعيد، يتوق إلى لون موسيقي يثور على قيود الأستاذة المحافظين، إرث موسيقي يستعصي على التجديد، تحكمه ذائقة طربية صارمة، هذه أصوات وألحان لا تشبهه.
لن يوقفه أحد، سيشعل ثورته رغم دبلوم الزراعة الذي حصل عليه، رغم الوظائف العديدة التي التحق بها، شغفه بالموسيقى تملّك منه تماما، لا يحتاج أن يطوّع صوته على ألحان الآخرين، بل سيستمسك بصوته الخاص إلى حين، صوته هو القادر على إيصال هذه الجرعة العاطفية والانفعالية التي يبثها في ألحانه، نعم محمد الموجي "المطرب" حتى إشعار آخر.
"تروح الفكرة وتيجي الفكرة"، وما زال محمد الموجي عند رأيه ولم ينس ولن ينسى، يبدو أنه يبحث عن صدى لصوته وروحه وفلسفته الخاصة عن الموسيقى وليس مجرد مؤدٍ لألحانه الثورية التي تمكن منها وأسلمته قيادها، ألحان جديدة وطازجة تتواكب مع الموجة الثورية التي تجتاح مصر بعد 23 يوليو 1952، ربما يعثر عليه في القريب العاجل.
صافيني مرة وجافيني مرة.. ولا تنسنيش كده بالمرة.. تروح الفكرة وتيجي الفكرة.. وأنت ناسيني كده بالمرة
يحصل محمد الموجي أخيرا على صدى لصوته، يحصل على عبد الحليم حافظ، وعن أجواء هذا الصدى المنغم يحكي الموجي: "كأني ألحن لنفسي، ما أرغب في غنائه أنا كمحمد الموجي المطرب أمنحه لعبد الحليم، جو ألحاني أو الخط الموسيقي الخاص بي كان يتلامس مع عبد الحليم أكثر من أي إنسان آخر، عبد الحليم استحوذ تماما على حواسي لأنني وجدت الإنسان الذي أستطيع أن أأتمنه على ما ادخرته لنفسي، هذا الشيء الذي يحرك علاقتي بعبد الحليم حافظ شيء لا أستطيع شرحه، هو شيء يخص علاقتي بعبد الحليم فقط، الأغاني التي لحنتها لعبد الحليم كان لها اهتمام خاص مني، لأني ألحن كما كنت أنا سأغنيها".
"صافيني مرة وجافيني مرة"، لا عجب أن تكون هذه الأغنية المختلفة لحنيًّا وشعريًّا الإعلان الرسمي عن تفجر وبزوغ موهبة عبد الحليم حافظ والملحن محمد الموجي، الأغنية الظاهرة حينها والتي قلبت الموازين الفنية، والتي عرضها محمد الموجي على عبد الغني السيد ومحمد عبد المطلب وشهرزاد وغيرهم، جميعهم أجمعوا أن اللحن وكلمات الشاعر سمير محجوب ليست من اللون الذي يقدمونه، وكأنها كانت منذورة ومكتوبة ومفصلة على مقاس عبد الحليم حافظ الذي قبلها بذكاء فطري معلّقا بضحكة عليمة: "سأغنيها ورزقي ورزقك على الله يا موجي"، وكان رزقهما معًا واسعًا امتد لنحو 54 أغنية من ألحان الموجي، أشهرها "يا حلو يا أسمر"، و"يا مواعدني بكرة"، و"ظالم"، و"تقوللي بكرة"، و"حبك نار"، و"رسالة من تحت الماء"، و"أنا من تراب"، و"مغرور"، و"لو كنت يوم أنساك"، و"ليه تشغل بالك"، و"الليالي" و"قارئة الفنجان".
"صافيني مرة وجافيني مرة"، كأن هذا لسان حالهما معًا، علاقة مترددة بين الصفو والجفاء، ليس جفوة إنسانية عن كره أو بغض، ولكنها جفوة فنية مرغوبة، جفوة سببها أحيانا الغيرة الفنية ورغبة أحدهما أو كليهما في التجديد والتحليق بعيدا عن الآخر وتجريب حظوظه مع ألوان أخرى، جفوة استغلها البعض وعزف على أوتارها الخشنة نشازا وصل أحيانا لصفحات الجرائد.
كان صدى صوت محمد الموجي يتردد في الجنبات محققا النجاحات تلو الأخرى، يتردد بنزق وحماس وحيوية، يتردد خارج موجة محمد الموجي، يتردد على موجات لحنية أخرى، موجة بليغ حمدي كانت مجنونة ومتدفقة ومنسابة ورائجة، لا يفل الحديد إلا الحديد، راجت ألحان محمد الموجي بأصوات فايزة أحمد ووردة وشادية، ومن ورائهما بالطبع أم كلثوم، ومن ينسى "للصبر حدود"، و"اسأل روحك"، و "أنا قلبي إليك ميال"، و"ياما القمر على الباب"، و"بيت العز"، و"شباكنا ستايره حرير"، بل وبأصوات شبابية: محرم فؤاد، وماهر العطار، وعبد اللطيف التلباني، وهاني شاكر، وكمال حسني، منحها محمد الموجي فرصة تحدي العندليب الأسمر، ليس نكاية في عبد الحليم وإغاظته وزعزعة عرشه وإنما ربما لرغبته في العود إلى صدى صوته.
لم تكن علاقة عبد الحليم ومحمد الموجي مقتصرة على الجانب الفني، بل كانت علاقة إنسانية يلفها جو أسري فريد، كأنهما كانا يحرسان "صدى صوتهما" من الانحراف عن ذبذبته وموجته الثنائية الرائقة، كان عبد الحليم يستعين بزوجة الموجي "أم أمين" لتلطيف الأجواء بينهما عندما تتعكر وربما تصل إلى حد القطيعة، لكن حتى رسول السلام بينهما نال حظه أيضا من الاستخدام للإيقاع بين "الصوت" و"صداه"، بين العندليب ولحنه العذب، بين حليم والموجي، ووصل الأمر إلى حد اتهام زوجة محمد الموجي بتسخير الجن واستخدام السحر لربط الموجي بعبد الحليم، وأن يبقى العندليب مريضا طوال عمره، ما استدعى تكذيبا باتا منه، وتمتد المسيرة الموصولة بعشرات الأغاني التي تربط الثنائي المجدّد.
صدى الصوت بدأ يخفت ويفقد قوته، وإن أضفى عليه المرض مزيدا من الشجن المطرب، الأجواء مكهربة تماما، وعبد الحليم مستغرق في التحضير لغناء قصيدة "قارئة الفنجان"، استدعى لها نزار قباني حتى يضمّن قصيدته شفرة سرية لتوجيه رسالة ما إلى جهة ما، رسالة عن محبوبة تتوج على عرش التمثيل في مصر، ليس فقط السندريلا بل الملكة والإمبراطورة، تمنعها جهات أمنية من الارتباط بالعندليب والتي تمسك عليها بعض الفيديوهات الجنسية، تتداخل الأصداء كلها فجأة ويبحث العندليب وسط النشاز عن ضابط للإيقاع، من يضبط نشاز كل هذا؟، نشاز بدأ يتفاقم ليس في "كبده" الذي يعاني التليف، ولكن في قلبه الذي يمضّه هجران تحت سيف التهديد.
وبعد جولات وصولات من تغيير كلمات القصيدة مع نزار قباني، جاء الدور على محمد الموجي، والذي أسندت إليه المهمة المستحيلة، كان محمد الموجي يستشعر أخطارا محدقة، ليس على المستوى الأمني والسياسي، ولكن على مستوى صحة العندليب التي بدأت تنهار بفداحة، تنهار وتنزوي، كان يلوح في الأجواء هاجس سيطر عليه، هل ينحبس صوت عبد الحليم حافظ للأبد، هل يغيّبه الموت، ويفقد الموجي صداه العذب المؤتمن على ألحانه.
تملك الهاجس من محمد الموجي، لم يستطع المقاومة، انهارت قواه هو، ربما توحدا مع صديق العمر، انحبس صوته هو، انحبس في حنجرته وتمنّع عليه الصوت، الأجواء مشحونة، فقد حضّر عبد الحليم حافظ لهذه الحفلة، يخطط أن تكون مفاجأة مدوية وقنبلة إعلامية، والوقت أزف. حبسة صوت الموجي تعيق نقل لحن القصيدة إلى نوتات، تعيق تدرب عبد الحليم على اللحن، تقف حاجزا لأول مرة بين الصوت وصداه، تحجز أحاسيس ومشاعر وعواطف الموجي عن الانتقال إلى عبد الحليم، لكن الصوت يقاوم انهياره، يقاوم تبدده، يقاوم ضياعه في البرية من دون ذكرى أخيرة وتخليد للحظة النهاية المرتقبة، كآخر ترجيع لصدى الصوت العندليبي.
كأن الموجي بعث صوته من العدم، يعودان ليتدربا سويا على آخر لحن وآخر صوت يجمعهما، لحظة تجلي نادرة تليق بالنهايات!، وكأن قارئة الغيب خاطبتهما بينما تتأمل فنجانهما المقلوب، وقالت لهما: "يا ولديّ لا تحزنا فالموت عليكما هو المكتوب"، فما أصعب أن يقع الملحن في غرام صدى صوته.
شيرين عبد الوهاب.. مبررات ساذجة لتحضير "سد الحنك"
محمود الجندي.. "فنان فقير" أقلع عن الضحك!
نجمة إبراهيم.. الشر صنعة و"محدش بياكلها بالساهل"