اللاجئ الفلسطيني غسان مطر.. "الصح صح يا عرفات"
ضل طريقه إلى عالم التمثيل، وكان يرغب بكل جوارحه أن يكون ضابطا في جيش التحرير الفلسطيني، إلا أنه حِيل بينه وبين هذه الرغبة "الوطنية" بسبب خطاب للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ولم يمنعه ذلك من النضال ضد المحتل الغاشم، عاش فترة من عمره متخليا عن اسمه الحقيقي ومتخفيا تحت اسم حركي ذاع وانتشر حتى أنه صار اسم الشهرة الذي لا نعرفه إلا به، إنه "الأستاذ" غسان مطر، والذي سنكشف القناع عن شخصيته الحقيقية ومعاناته كفلسطيني مع الشتات واللجوء عبر محطات صعبة من حياته.
تمضي ثلاث سنوات على وفاته إثر إصابته بالسرطان، في الـ27 من فبراير 2015 ، عن 77 عاما حافلة بالحياة والنضال والتمرد والمواقف الاستثنائية، إلا أن صوته الأجش وطلته المميزة وحضوره الطاغي وشهرته في آخر حياته على مواقع التواصل الاجتماعي وقد صار نجما للكوميكس الساخرة ما زالت حاضرة بقوة، وما زال الجميع يذكر مقولاته التي صارت مضرب المثال، بالتأكيد سبق وأن رأيت مقولة "اعمل الصح" بتنويعات مختلفة لا ترتبط فقط بـ "حزلقوم" في فيلم "لا تراجع ولا استسلام"، وكذلك مقولته "اختراع يا كوتش" في أحد الإعلانات الشهيرة التي رسخت حضور غسان مطر بقوة في عقول المصريين بعد أن صار "براند" أو ماركة مسجلة للقبول الجماهيري على خلفية الشرير الطيب الذي ينفي بكل ما أوتي من قوة أنه ليس شريرا وأنه "طيب زي الأستاذ كمال أبو رية والأستاذ محمود الجندي".
من يافا إلى طرابلس.. يا قلبي احزن
ولد عرفات داوود حسن المطري في 8 ديسمبر 1938 في منطقة المنشية في يافا لأسرة فلسطينية كبيرة يزيد عدد أبنائها عن 14 ابنا وابنة، في وقت تموج فيه فلسطين بحركة مقاومة شرسة ضد العصابات اليهودية المسلحة والتي تعيث في الأرض العربية فسادا وتدميرا وتهجيرا لإقامة دولتها المزعومة.
يستيقظ وعي الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة على إعلان إقامة دولة إسرائيل واندلاع حرب فلسطين عام 1948، يفاجأ بإجباره على ترك منزله وأرضه ووطنه مهجّرا مع عائلات فلسطينية عديدة، تصدمه المذابح المروعة التي اقترفها مجرمو إسرائيل بحق القرى الفلسطينية التي مر بها في طريقه إلى مستقره المؤقت في مخيمات اللجوء، وتحديدا في مخيم البداوي شمال لبنان، ويترسخ في عقله حتمية الثأر والانتقام، وتحدّثه نفسه بقوة بأمنية الالتحاق مستقبلا بجيش التحرير كضابط من ضباطه وجندي من جنود المقاومة.
المحرض الناصري!
في عام 1956، وفي ظل العدوان الثلاثي على مصر، قرأ المراهق الذي لم يتجاوز العشرين من عمره على مسامع أحد المواطنين الأميين، ويدعى حسين الصفوري، وكان يبلغ 30 عاما، خطاب الزعيم جمال عبد الناصر في الجريدة، والذي يدعو فيه المواطنين العرب إلى مهاجمة المصالح الإسرائيلية في شتى أنحاء العالم ويمارسوا دورهم في الحرب الدائرة، يستجيب "الصفوري" من فوره ويقدم على تفجير أنابيب البترول في مدينة طرابلس، وعندما ألقي القبض عليه، اعترف بتحريض المراهق له مما ورطه في القضية، إلا أن السفارة المصرية في لبنان تدخلت وتم الحكم عليه بالسجن 3 أشهر مع وقف التنفيذ لأنه ما زال قاصرا ولم يتجاوز السن القانونية.
وعندما تقدم بأوراقه للالتحاق بجيش التحرير الفلسطيني وليحقق الأمنية التي لطالما حلم بها، رُفض لأنه صحيفته الجنائية أظهرت "أنه محرض وأنه ناصري".
خلاف سياسي يقع بين الرئيس اللبناني كميل شمعون، وبين جمال عبد الناصر، وينقلب "ناصر" عليه ويدعو الشباب العربي إلى مقاومة هذا "الاستعماري"، يعود عبد الناصر من جديد ليبث الحماسة في نفس وقلب اللاجئ الفلسطيني الغاضب، يتسلل برفقة عدد من أصدقائه إلى سوريا ويعودوا بشحنة أسلحة ومعدات بث إذاعية، ويؤسسوا منبرهم الإذاعي الخاص ليعبروا عن آمالهم وطموحاتهم الفلسطينية، وهناك يلتقي بـ نايف حواتمة، مؤسس الجبهة الشعبية الفلسطينية فيما بعد، وتنتشر بياناتهم السياسية الغاضبة.
الفدائي
يلفت الشاب الفلسطيني الأنظار إليه بعد الضجيج السياسي الذي حققته الإذاعة، ويوافق رئيس الوزراء اللبناني، كميل شمعون، على تقديمه برنامجا إذاعيا باسم "ركن فلسطين" على الإذاعة اللبنانية.
تستعر المواجهات المصرية الإسرائيلية على خط قناة السويس خلال نكسة يونيو 1967، وكان مقدرا للشاب الفلسطيني أن يقدم عبد الحليم حافظ في حفل بلبنان على أن تنقله الإذاعة اللبنانية، يقترح عليه عمل أغنية للفدائيين، يسارع عبد الحليم حافظ إلى تلبية اقتراحه، يتصل بالجميع، إلا أن محمد حمزة كان الأسرع، ويلحنها بليغ حمدي في نصف ساعة، ويصدح عبد الحليم حافظ بغضب وحماس من قلب لبنان وعبر الإذاعة اللبنانية، إلا أنه يتلقى اتصالا من جهات عليا تأمره بقطع الإرسال فورا، إلا أنه يرفض تماما، مما يكلفه وظيفته.
غسان مطر.. ليس مجرد تمويه
عمد إلى اختيار اسم حركي للتمويه لا يستدل منه على هويته وجنسيته أو محل مولده أو ديانته، واختار "غسان مطر"، ليعرف به طوال تاريخه، لدرجة أنه التصق به تماما، حتى أنه لم يخبر زوجته عن اسمه الحقيقي "عرفات" إلا قبل زواجه منها بيوم واحد، ومن المصادفات أن الرجل الذي تخلى عن اسم "عرفات" كان يعتبر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أباه الروحي وكان تربطه به علاقة قوية امتدت لعشرات السنين.
بدأ العمل في التليفزيون المصري من خلال مسلسل "دائرة الضوء"، شارك في بادئ الأمر في أفلام تعبر عن النضال الفلسطيني، وقدم في بداياته أفلام بعنوان «كلنا فدائيون»، و«الفلسطيني الثائر»، عام 1969، الذي كان من إنتاجه.
فجيعة صباحية
في عام 1982، تجتاح قوات الاحتلال الإسرائيلي لبنان، يضطر غسان مطر إلى الهروب إلى مصر متخفيا في زي راهب مسيحي، ويقيم ويعمل في مصر، إلا أن روحه ما زالت معلقة بأسرته التي تركها وراءه، إلا أن وجوده أو محاولة رجوعه ثانية إلى لبنان في ظل هذه الأوضاع العسكرية المتردية محفوف بالمخاطر الجمة لا سيما وأنه مطلوب مقاوما فلسطينيا صعب المراس.
تمضي الأيام والشهور بحلوها ومرها متنقلا بين القاهرة وبيروت، وقد بدأ العمل والمشاركة في عدة مسلسلات مصرية، وذات صباح عادي وبينما يحلق ذقنه تحضيرا لتصوير دوره في مسلسل «محمد يا رسول الله»، يأتيه خبر مقتل أسرته عبر أثير إذاعة مونت كارلو الدولية، قتلت أمه وزوجته وابنه «جيفارا»، ونجت 3 بنات له، في حرب المخيمات الفلسطينية في لبنان وبإيعاز من الرئيس السوري حافظ الأسد الذي ناصب ياسر عرفات حينها العداء وكذلك كل المعلقين السياسيين الذين وافقوه وساندوه، وتتولى السفارة المصرية مهمة لم شمل العائلة الممزقة وتعيد البنات الثلاث على أول طائرة متجهة للقاهرة.
واصل غسان مطر نضاله ضد المحتل الإسرائيلي بفنه وعمله المباشر ضمن مؤسسات فلسطينية عدة، حيث كان عضوا بالهيئة الإدارية في اتحاد الكتاب الصحافيين الفلسطينيين بالقاهرة، وهو الأمين العام لاتحاد الفنانين الفلسطينيين، ولم تغب أبدا فلسطين عنه وظلت حاضرة بقوة في وجدانه، وهو من عانى الشتات واللجوء طوال حياته الممتدة إلى أن وافته المنية في القاهرة قبل 3 سنوات إثر إصابته بالسرطان.
محمود الجندي.. "فنان فقير" أقلع عن الضحك!