التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 11:06 ص , بتوقيت القاهرة

ميكنة الخدمات الحكومية تمنع الفساد وتوفر للدولة مليارات الجنيهات

لا شك أن الإجراءات التى تتخذها الحكومة مؤخرا، وخصوصا وزارة التخطيط بقيادة الدكتورة هالة السعيد، بشأن ميكنة الخدمات الحكومية، ستكون هى الأساس القوى لترشيد الخدمات الحكومية ومنع الفساد الإدارى في الفترة المقبلة، رغم تأخر هذه الإجراءات لسنوات طويلة.


ورغم قدم الدولة المصرية، ووجود كفاءات عالية جدا في مجال التكنولوجيا والاتصالات بين أبنائها، ووجود بنية تحتية ضخمة لكل ذلك، إلا أن أغلب المؤسسات الحكومية (خصوصا مقدمة الخدمات الجماهيرية منها) مازالت تتعامل بمنطق الأرشيف الورقي، والخدمة اليدوية للجمهور، وهو ما تسبب في أن تتقدم دول لا يتجاوز عمرها عدة عقود، محيطة بنا في هذا المجال، ولن نذهب بعيدا فبجوارنا العربي توجد دولة الإمارات التي أصبحت دولة إلكترونية في كل شيء، بداية من جراج السيارة إلى محطات الفضاء رغم أن عمرها لا يتجاوز 60 عاما، مقابل أقدم دولة في التارخ.


ونحن هنا لن نتحدث عن أهمية الميكنة بشكل عام ولا دورها، فهذه أمور يعرفها الجميع، ولكن سنسلط الضوء على أهميتها الاقتصادية سواء للدولة أو المواطن، وفي سبيل ذلك سأقص عليكم قصة صغيرة حدثت معي شخصيا ستظهر لكم مدى أهمية ميكنة الخدمات الحكومية الاقتصادية ودورها الاقتصادى للفرد والمجتمع.


منذ فترة، ذهبت إلى أحد أقسام الشرطة، لاستخراج فيش جنائي طلب منى لاستكمال بعض مستندات العمل، ومن المعروف أن هذه الخدمة مجانية، وبالفعل يوجد تقريبا على كل أبواب قسم الشرطة لافتات تشير إلى أنها خدمة مجانية للجمهور، باستثناء ثمن استمارة الصحيفة الجنائية نفسها، المهم، اشتريت الصحيفة، بـ15 جنيها وأعطيت الموظف 20 جنيها، ولاحظت أن كل من يعطيه مبلغ أكثر من الـ15 جنيها يقول له الموظف "مفيش فكة"، فإما أن تبحث أنت عن فكة أو أن تتنازل عن الباقي له وديا.


 وبمجرد أن تشترى الاستمارة تفاجأ بأحد الأشخاص يطلب منك أن يملأ لك بيانات الاستمارة مقابل 5 جنيهات، ويحذرك من أنك لو ملأت الاستمارة خطأ ستضطر إلى شراء واحدة أخرى، وبالفعل يستجيب له كثيرون من البسطاء خوفا من الخطأ.


أما أنا فبذلت مجهودا كبيرا حتى أقنعه أننى لست في حاجة له، وأستطيع ملء الاستمارة بدون خطأ، وفعلا ملأت البيانات المطلوبة، ثم توجهت للمكتب المخصص لاستلامها، وأثناء وقوفى الطابور لاحظت أن كل فرد في الطابور يحمل بيديه 5 جنيهات مع الاستثمارة، فسألت أحد الأشخاص في الطابور، لماذا يحمل بيديه 5 جنيهات، فرد بأنها "(إكرامية) للموظف عشان يخلص بسرعة"، ورأيت أنه بالفعل كل من يصل للموظف يعطيه 5 جنيهات مع الاستمارة.


وبالفعل جهزت 5 جنبهات، وأعطيتها للموظف الذي قام بملء بعض البيانات القليلة بها ثم أشر عليها، وطلب منى أن أعطيها لعامل البصمة، وعامل البصمة هو المسئول عن أخذ البصمة على الاستثمارة، وبدوره لابد أن تعطيه اللي فيه النصيب، حسب ذوقك، من جنيه إلى 3 جنيهات، وبعد ذلك يرشدك العامل نفسه إلى عامل آخر موجود أمام الحمام لغسل اليد بعد البصمة، ويعطيك منديلا لتنشيف إيدك، وأيضا لابد أن تعطيه جنيها على الأقل مقابل ذلك، ثم تنصرف وتأتي لأخذ الصحيفة في اليوم التالى.


ومن هذه الحادث يتبين لنا أن الخدمة التى من المفترض أن تكون مجانية تكلفت حوالى 14 جنيها إكراميات بخلاف ثمن الاستمارة وهو 15 جنيها أيضا، إلى جانب أن هذه الإجراءات والطابور يستغرق يوما كاملا، بجانب تكاليف المواصلات، والتكاليف التي تتحملها الدولة أيضا كأجور لهؤلاء الموظفين بمليارات الجنيهات شهريا، بالإضافة إلى رسوم يمكن تحصيلها بأموال طائلة.


والمشكلة الأساسية ليست في قيمة تكلفة هذه الخدمة فقط، ولكن أيضا أن الدولة نفسها لم تستفد شيئا من كل ما تم دفعه، فقد ذهب معظمه إلى موظفين فاسدين، كما أن المواطنين تعرضوا لاستنزاف من أجل الحصول على حقوقهم الأساسية التى نص عليها الدستور، وبالتالي يزداد الكره لمؤسسات الدولة التى هى في الحقيقة لم تأمر بذلك ولم تستفد منه شيئا.


كما أن المواطن نفسه لا يمانع أبدا في أن يحصل على الخدمة بمقابل مادي إذا كان سيحصل عليها بسرعة وفي سهولة بدون تعطيل مصالحه، بالإضافة إلى أن تستفيد الدولة بشكل مباشر من مقابل الخدمة.


ولذلك فإن ميكنة الخدمات شيء ضروري لكل من المواطن، الذي يرغب في خدمة سهلة وسريعة ومريحة وكاملة، والدولة التى تسعى لإرضاء مواطنيها بدون استنزافهم أو زيادة عجزها المالي، فلو قدمت الحكومة هذه الخدمة السابقة "الصحيفة الجنائية"  مقابل 50 جنيها بشكل إلكترونى مثلا، بدون أن يذهب المواطن للقسم (إلا للمرة الأولى) وفي وقت محدد وبسيط، سيدفع هذه القيمة برضاء تام، كما ستستفيد الدولة من الحصول على هذه الرسوم التى كانت ضائعة، وستمنع التكلفة العالية التى كانت تتكلفها مثلا فى طباعة الاستمارة الخاصة بالخدمة، وستمنع الفساد الإدارى وغير ذلك، بالإضافة إلى أن تقديم هذه الخدمة بشكل جيد ومقنن يشجع الاستثمار والمستثمرين، فمعظم الرافضين من الأجانب للعمل في مصر عندما تسألهم لماذا هذا الرفض فأول إجابة لديهم بسبب الفساد الإداري وصعوبة الإجراءات .


لن نخوض في باقي الخدمات، ويكفينا نموذج واحد، فكل ما سبق، يخص خدمة واحدة من عشرات الخدمات التى يحدث معها نفس الإجراءات والأخطاء، فهل تسرع الحكومة فى ميكنة هذه الخدمات لصالح الجميع؟