إلى ذات النقاب الأسود... قصة "الرداء المثير للجدل" على مر العصور
على مر العصور، اعتبر النقاب رداءً مثيرًا للجدل، فمنذ ظهوره وحتى قبل مجيء الإسلام، كان يستخدم للتخفي، وكان يعد رمزًا من رموز النساء الراغبات في عدم الظهور، كما كان في بداية عهده عبارة عن قطعة من القماش تستخدم لإخفاء الوجه والرأس عن الناس، وغالبًا ما يكون باللون الأسود.
النقاب الأول
يعود ظهور الرداء الأسود "النقاب" إلى عصور ما قبل مجيء الإسلام، حيث تضرب جذوره إلى ما قبل بنو كنعان، الذين كانوا يسكنون شبه الجزيرة العربية، والشام، ثم ظهر مرة أخرى في عهد الدولة البيزنطية، حيث كان الزي الرسمي لنساء بعض الفئات لدى البيزنطيين، وكان عبارة عن قطعة من القماش ذات اللون الأسود، تستخدم لغطاء الوجه والرأس معًا، بالإضافة لزي اسمه "البلا" وهو عبارة عن عباءة مشملة.
وفي مصر ظهر النقاب في أوائل القرن الثالث من الميلاد، حيث أشار بعض الباحثين في التاريخ إلى أن النقاب ظهر في مصر مع بداية القرن الثالث الميلادي، حيث كانت تستخدمه الفتيات العذارى، وكن يرتدين غطاء لا يغطي فقط الرأس وإنما أيضًا كامل الوجه من أجل لفت الانتباه.
ويستدل أصحاب هذا الاتجاه بما جاء في الكتاب المقدس بعض التراتيل التي تحث على تغطية الوجه، ففي سفر التكوين 38.14 والتكوين 24.65، وكن بعض النساء في مصر والجزيرة العربية وكنعان وفارس استخدمن النقاب لفترة طويلة قبل ظهور الإسلام.
النقاب قبل الإسلام
وعلى مدار قرون طويلة، انتقلت عادة النقاب من الكنعانيين إلى العرب في شبه الجزيرة العربية ومصر الفرعونية، وشعوب أوربا، قبل مجيء الإسلام، حيث عرف العرب قبل الإسلام عادة تغطية المرأة لشعرها ووجهها تماما كما عرفته الشعوب الأخرى، وأصبحت عادة متوارثة انتشرت منذ زمن الحضارة السومرية القديمة، وما قبلها من الحضارات.
ويرى اتجاه مختلف بأن النقاب كان منتشرًا قبل الإسلام في الشريعة اليهودية، توارثوه من الكنعانيين، مستدلين أصحاب هذا الاتجاه بما جاء في العهد القديم وسفر التكوين من أن النقاب كالسنة المتبعة عند نساء اليهود، وسنجد الحبر الشهير موسى بن ميمون يقول "إذا خرجت المرأة من بيتها دون النقاب فقد خرجت من اليهودية"، ثم توارثه العرب منهم، حيث كانت القبائل اليهودية والعرب يتشاركون في مناطق واحدة في السكن، ثم انتقل النقاب من القبائل اليهودية إلى القبائل العربية.
النقاب في الإسلام
عندما جاء الإسلام ووجد النقاب عادة اجتماعية منتشرة لدى عرب شبه الجزيرة العربية ومصر وشعوب أوربا، باعتبارها عادة متجذرة، لم يفرضه ولم يرفضه، ولكنه وضع مواصفات للزي الإسلامي المحتشم الذي لا يصف ولا يشف ولا يثير الفتنة، ويكتمل بالحجاب وليس بالنقاب، كما وردت نصوص قرآنية تطالب نساء المسلمين بالاحتشام والالتزام بالزي المحتشم، لكن تفسيرها اختلف بين الفقهاء والعلماء حول ما إذا كان المقصود منها النقاب أم الحجاب.
وجاء في كتاب الله في محكم التنزيل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}، وقوله أيضا {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}.
وانقسم في تفسير تلك النصوص فريقان، الأول يفسرها بوجوب المرأة ستر وجهها أمام الرجال الأجانب، لأن الوجه عورة، وهو ما يتحقق بالنقاب، وذلك مذهب الإمام ابن حنبل، والشافعي، والثاني يفسرها باستحباب النقاب وعدم وجوبه، وهو مذهب أبي حنيفة والإمام مالك.
النقاب في عصر صدر الإسلام
ارتدت نساء المسلمين النقاب طيلة العصور التي تلت مجيء الإسلام، وحتى يومنا هذا، بين اختلاف الفقهاء، واستحباب بعض الفئات، ورفض البعض الآخر له، والاكتفاء بالحجاب على أساس وجوبه في الشرع الحنيف، فيما يتعرض النقاب للرفض من الغالبية العظمي على مدار الثمانية قرون الماضية، مشجعين على الاكتفاء بالنقاب.
وكان أكثر الدول التي شهدت رفضا للنقاب من الغالبية، عصر الدولة الأموية، حيث كن النساء يكتفين فيه بالحجاب، فنجد الكاتب أحمد أمين يقول في كتابه المعنون بـ"هارون الرشيد"، (أن القارئ لكتاب الأغاني، يرى أن الحجاب في ذلك العهد لم يكن له شأن يذكر، بل كان لباسا مقتصرا على غطاء للرأس فقط، فكانت المرأة تقابل الرجال وتجالسهم وتسمر معهم، بل وقد تقود الجنود للقتال كأخت طريف بن الوليد، وكان الرداء المعروف هو لبس المرأة غطاء على الرأس الذي اخترعته علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد).
النقاب في مصر
انتقل النقاب من الجزيرة العربية إلى مصر، وظل متوارثا بعد الفتح الإسلامي لمصر، وظل النقاب بين الرفض والقبول حتى الدولة العثمانية، والتي ابدي حكامها ضرورة ارتداء النقاب أسوة بنساء "الحرملك" والتي كانت متوارثة في اسطنبول فكان يرتديه النسوة سواء مسلمات أو مسيحيات، كما كانت المحظيات والنساء المولودات من النخبة العثمانية المصرية ينعزلن في الحرملك الذي كان يحرسه مجموعة من الجنود، وكان النقاب في ذلك الوقت نوع من الترف لا تستطيع الأسر الفقيرة تحمله، لذلك لم تستطع نساء الطبقة الفقيرة اقتناء نقاب مخصص لهن.
المعركة الحقيقية للنقاب لم تظهر إلا في العصر الحديث، وتحديدا الحجاب أثناء الحركة القومية في مصر، حيث نشب النقاش حول وضع المرأة المصرية والحجاب في مطلع القرن العشرين، وذلك في خضم حركة القومية المصرية، حيث بدأت المنظمات العاملة في حقل حقوق الإنسان تنظر إلى وضع المرأة المصرية، والأوضاع الأخرى ويتجادلون ما إذا كانت مصر متقدمة بما فيه الكفاية لحكم نفسها دون الاحتلال البريطاني.
وبالتالي، اضطر المصريون الغربيون المتعلمون وغيرهم من الشخصيات البارزة في الحركة الوطنية المصرية إلى إعادة النظر في ممارسات النقاب والحجاب، وعزل النساء، والزواج المنظم، وتعدد الزوجات، والطلاق.
حركة من أجل الحجاب
دخل النقاب معترك السياسة في مصر منذ عهد الرئيس جمال عبدالناصر، حيث كان يستخدم في الأمور السياسية فتراجع استخدامه وتم تقنينه، وعقب وفاة ناصر، نشأت حركة معاصرة من أجل الحجاب المعاصر، وذلك عندما بدأت النساء اللواتي لم تتحجب أمهاتهن بارتداء أشكال مختلفة من غطاء الرأس مثل الحجاب، والخمار، وهو غطاء الرأس الذي يغطي الشعر ويسقط على الصدر والظهر بالإضافة لقفازات وجوارب معتمة لتغطية اليدين والقدمين.
وبحلول الثمانينيات، تحول النقاب إلى سلعة رائجة، ودخل في منافسات مع الأشكال الأخرى للأزياء النسائية، وكن يفضلنه النسوة التي تزيد أعمارهن عن الثلاثين.
وبحلول الألفية الجديدة، وفي مطلع العام 2000، اندلع خلاف حول النقاب في الجامعة الأميركية في القاهرة عندما كانت طالبة ترغب في أن يكون وجهها مكشوفًا، ولم يسبق في ذلك الوقت لهذه الواقعة أن تحدث في هذه المؤسسة.
وفي عام 2001، أعلنت الجامعة الأمريكية رسميًا حظر النقاب بها وأيدت موقفها بالاقتباس من لائحة عام 1994 التي وضعتها وزارة التربية والتعليم والتي تعتبر النقاب غير ملائم في المؤسسات الأكاديمية، كما منعت الجامعة دخول طالبة اسمها هبة الزيني من الدخول إلى مكتبة الجامعة الأمريكية بنقابها بسبب مشكلة تحديد الهوية التي يمكن أن يشكلها النقاب.
وفي 3 أكتوبر من العام 2009، شهد أكبر جدل في قضية النقاب، بعدما أشار شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي إلى طالبة تبلغ من العمر 11 عاما لإزالة النقاب، قائلا أن "النقاب ليس سوى عرف ولا علاقة له بالإسلام"، وبعد أربعة أيام من الواقعة، أصدر المجلس الأعلى للأزهر، الذي ترأسه طنطاوي، قرارًا يحظر ارتداء النقاب في جميع الفصول الدراسية والمدن الجامعية في الأزهر.
وعقب ثورة يناير وتصدر التيارات الدينية المتطرفة المشهد، وتعدد حوادث الإرهاب، واستخدام النقاب في غير موضعه، ازدادت المطالبات بحظر النقاب في مختلف الأماكن العامة ووسائل المواصلات لأسباب أمنية.
اقرأ أيضًا