التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 05:32 م , بتوقيت القاهرة

محمد الموجي.. "ترزي" الأصوات المتمرد

محمد الموجي
محمد الموجي

قليلون من أخلصوا للفن بصدق، قليلون من كانت شخصيتهم الفنية بصمة لا تتكرر، فما ان تشاهد عمل فني او تسمعه حتى تصيح بكل روحك، هذا العمل من إبداع " فلان"، هذه الشخصية لا تقف فقط على الموهبة، فالموهبة قد تساعد دائما ولكن الشخصية الفنية تأتي بتميز واختلاف سبيلهم التطور والتجدد المستمر والإصرار على الحلم، كل هذه الأمور صنعت بصمة فنية موسيقية مميزة تحمل اسم "محمد الموجي".


المتمرد



محمد أمين محمد الموجي، ولد في 4 مارس عام 1923 بمدينة بيلا بمحافظة كفر الشيخ، والده كان أحد هواه الموسيقي وكان يعزف على العود، لذلك تعلم محمد الموجي العود واتقن العزف عليه وهو في الثامنة من عمره، كما ان شقيقه الموسيقار "إبراهيم رأفت" اتقن العزف على العود وهو صغير أيضا.


حصل الموجي على شهادة الدبلوم الزراعي وعمل في البداية موظفا في إدارة الأملاك الأميرية وتنقل في عدة وظائف لها علاقة بالزراعة، حتى قرر أن يتمرد تمرده الأول على الوظيفة، ويرحل الى القاهرة ليعمل عازف عود أولا في فرقة " صفية حلمي" ثم ينتقل الموجي بعدها إلى أكاديمية الفنون المتحركة هذه الفترة فرقة "بديعة مصابني".


عام 1951، يحاول الموجي أن يقدم نفسه كمطرب وملحن للإذاعة المصرية، ولكن اللجنة رفضته كمطرب واعتمده كملحن، ليأخذ الموجي الخطوة الأولى في تجاه تمرده الثاني والأكبر والأهم ليس في مسيرة الموجي فقط ولكن أيضا في مسيرة الموسيقى المصرية والعربية بشكل عام.


وكعادة كل تمرد، ومنطق كل انقلاب، لا يقوم به فرد بمفرده، فكان لهذا التمرد شركاء، عبدالحليم حافظ وكمال الطويل ومحمد حلاوة وامام الصفطاوي وسمير محجوب وعلى إسماعيل، ليكون تلك هو مجلس قيادة ثورة موازي، ثورة غنائية قادوها جماعة.


" يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا اسمر" كانت تلك أول أغنية لحنها محمد الموجي لعبدالحليم حافظ، أغنية كتبها سمير المحجوب احد كتيبة الثورة، ولكن الأغنية الأشهر هي صافيني مرة والتي كتبها محجوب أيضا ولحنها الموجي، والتي تقدم بها عبدالحليم للإذاعة ولكنها رفضت وحينما تغيرت لجنة الاستماع في العام التالي قبلتها الإذاعة بصدر رحب، لتحدث الاغنية دوي وصدى واسع لينطلق بعدها كتيبة الثورة، تزامنا مع ثورة سياسية واجتماعية كبيرة، ليصبح التغير الذي شهدته مصر في مطلع الخمسينات تغيرا شاملا.



في رحلة دامت حتى وفاة حليم قدم الموجي له ما يقرب من 54 اغنية بين العاطفية والوطنية والدينية في مدة ما يقرب من 25 عام من الشراكة الفنية، ومن تلك الأغاني، " اسبقي يا قلبي، حبك نار، كامل الاوصاف، رسالة من تحت الماء، قارئة الفنجان، جبار، أنا من تراب، النجمة مالت ع القمر".


الموجي لم تمر حنجرة وصوت جيد في مصر لم تغني من ألحان الموجي، أم كلثوم، شادية، فايزة أحمد، ماهر العطار، محمد قنديل، هاني شاكر، وردة، ميادة الحناوي، وغيرهم كثير لا يتسع الوقت لذكرهم، الموجي بالأساس كان متخصص اكتشاف أصوات جديدة وطرحها على الساحة الغنائية بألحانه.


حينما يلحن الموجي



ولكن لماذا الموجي؟ الموجي أقرب وصف ينطبق عليه هو ما قاله الكاتب شريف حسن في إحدى المرات" لو الكلمات حزينة، فلحن الموجي بيبكي، لو الكلمات سعيدة فلحن الموجي بيرقص"، ولعل المثال الأبرز على ذلك تلك الأغنيات التي لحنها الموجي لفايزة أحمد في فيلم "تمر حنة" فحينما تجد الموجي " في يا اما القمر ع الباب" يجعلك ترقص من الفرح، خاصة بالافتتاحية الموسيقية بأله الناي، ليتحول الناي مع لحن الموجي من أله شجن إلى أله فرح وبهجة وسرور وكأن الموجي يعيد تعريف الناي كأله موسيقية مرة أخري.


في الفيلم نفسه تجده يقتلك من الحزن في أغنيتي " يا تمر حنة" وقلبي عليك يا خي" والأخيرة تحديد تشبه العديد الشعبي، وكأن الموجي بلحنه ينعى حب مات أو يتم قتله في تلك اللحظة، لتتحول من مجرد أغنية لموقف درامي مكمل لما نراه على الشاشة فكلما نشاهد مشهد رشدي اباظة وهو يزيل الوشم من على صدره لابد ان نتذر صوت فايزة ولحن الموجي " قلبي عليك يا خي".



الموجي ليس فقط هو ذلك الملحن المعجزة الذي نطرب حينما نسمعه، بل هو ترزي أصوات، فهو يحمل الصوت الذي يغني ألحانه لمناطق ربما يكتشفها لأول مرة في حنجرته، يجبر حتى المطرب ذو الإحساس الضعيف، ان يتفوق على نفسه، فاللحن نفسه يدفعك دفعا لكي تعيش فيه.



ترزي الأصوات محمد الموجي، حتى حينما لحن لأم كلثوم للصبر حدود، نجده قد دخل عالمها، تجول بداخله، وعرف ان هناك شكل اخر يمكن أن تخرج به ألحانه من روح "الست" ولكنه في للصبر حدود، قدم لحن كفساتين ام كلثوم، محبوك ومحاك عليها بالمللي، ولكنه في اغنية اسأل روحك، استطاع أن يخرج ام كلثوم من ذلك العالم ليدخل بها إلى عالمه، لذلك فإن مقوله الموجي مطابقة حينما قال " في للصبر حدود الست كلثمتني بينما انا موجتها في اسأل روحك".


الموجي قادر ليس فقط على اكتشاف أصوات جديدة ولكن الإشارة لمناطق لا يراها المؤدي او المطرب في صوته، ولعل أيضا المثال الأبرز على ذلك ما لحنه لسعاد حسني في فيلم " صغيرة على الحب" حيث لحن لها "ما انتاش قد الحب يا قلبي، واوبريت صغيرة على الحب" ليطرح لأول مرة صوت سعاد حسني لمؤدية طربية لا بصوت ممتاز للغاية بل ويكشف في اللحنين مساحات صوتية لم يكن يتوقعها أحد.



الموجي ترزي الأصوات، يكفي ان تسمع اللحن لتعلم انها من ألحان الموجي، مستمرا في التلحين حتى اخر لحظات عمره، لحن لسمير سعيد وعلي الحجار وطلال مداح أيضا وفي 1 يوليو عام 1995، يرحل الموجي، بعدما نجحت ثورته وفاز في مغامرته، يرحل ليترك علامة لا ولن تمحى مهما تطورت الموسيقى وتغيرت، سيظل الموجي، هو الموج الذي أخرج الدرر من بحر الموسيقى.