التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 10:55 م , بتوقيت القاهرة

بروفايل| الجنيه المصري.. "جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت"

يتأهب الموظفون لإغلاق بيانات أخر عميل يقف أمام الشباك، انتهت ساعات العمل الرسمية في البنك، أطفأت الأنوار، وحارس أمن البناية، يداعب ظلمة الليل بكشاف كهربائي لا يترك يده أبدًا في ساعات العمل، فجأة تقع عيناه على عملة ورقية، سلط عليها الضوء دون قصد، يعيد المصباح لمربع "السيراميك" مرة أخرى، ليتأكد أن "اختبار الأمانة" قد حل، أيًا كان بلدها الأصلي دولار أمريكي، أو ين ياباني، أم يورو الاتحاد الأوربي، سوف تعود تلك الورقة في الصباح الباكر للخزانة، حتى يبحث عنها صاحبها.

يقترب من الأرض ويلتقطها قبل أن تذهب مع الريح، ليكتشف أن بين يديه "جنيه مصري"، يشعر بالأسف وهو يراه مهملًا على الأرض، صاحبه لن يشعر بغيابه، عكس باقي العملات، من منطلق الأمانة يتحرج وضعها في جيبه، وقبل أن يعيدها مرة أخرى لمكانها، يسمع صوتًا جهوريًا، جعله بشكل لا إرادي يجلس مكانه، وفي يديه هذا "الجنيه" الضال.

"الاسم: الجنيه المصري، تاريخ الميلاد: 1836، دخلت الخزانة المصرية، بعدما أوصى الوالي محمد علي باشا، بأهمية حضوري في حياة المصريين، بعد سنوات من تعاملهم بالقرش والبارة (40 بارة تساوي قرش)، في بدايتي كنت قويًا، من الذهب الخالص، أساوي نحو 4000 بارة، بمعنى أخر، من كان يمسك بي في تلك الأيام يعد من الأغنياء".

ولأن الذهب "ليس" للجميع، أوصى الخديوي توفيق بـ "سك" عملة نحاسية على إحدى وجهيها اسم السلطان العثماني، وبعد 49 سنة، اختفت "البارة"، وأعيد تقسيم القرش من 40 إلى 10، ويظهر "المليم" عام 1916، بعد أعوام من مسمى "عُشر القرش".


ينظر رجل الأمن مندهشًا إلى العملة الورقية التي بين يديه، معقول أن يصدر الصوت من ورقة، يأمرها فزعًا: "انصرف.. انصرف"، لكن الصوت يتجاهل دعوته، ويكمل حكايته.

"في جيوب المصريين نشأت كعملة وطنية، حظي التعس جعلني عرضة لـ"الكرمشة"، ويكتبون على وجهي الأمنيات والتهاني، وأرقام التليفونات، رغم أن أقراني من العملات الأخرى، مثل الدولار، يحتفظ أصحابها بهيبتها ومظهرها الحضاري في الجيوب. بالطبع هذا ليس مرتبطا بقلة استخدام العملة الوطنية، لأن معظمهم يستخدمون بطاقة الائتمان".

رغم أنني مصري، لكن الاحتلال البريطاني حاول بشتى الطرق، أن يأخذني لصالحه، في البداية أسموني "جنيهًا"، نسبًة إلى عملة إنجلترا (Guinea)، والتي كانت متداولة بها منذ أربعمائة سنة، بعد ذلك ارتبطت بالجنيه الإسترليني، وعندما غابت الشمس عن الإمبراطورية العظمى، ارتبطت عام 1962، بالدولار الأمريكي.

بدأت رحلتي مع التعويم عام 1989، بشكل جزئي، كان البنك المركزي مسيطرًا على السوق، والدولار يعادل 3.3 جنيهات، وفي 29 يناير 2003، قررت حكومة دكتور عاطف عبيد تعويمي بشكل كامل، لتحقيق توزان في السوق النقدي بين العرض والطلب، ونتيجة فك ارتباطي بالدولار الأمريكي، ارتفعت قيمته من 370 قرش إلى 535 قرش.


في الأعوام الأخيرة، أصبح "الجنيه والدولار" مثل ثنائية "بكيزة وزغلول"، الصاعد والهابط في جملة واحدة، كل العوامل كانت تدفعني كجنيه للانهيار، بدءًا من تراجع تحويلات المصريين في الخارج، والعمليات الإرهابية التي تؤثر على السوق السياحي، والسوق السوداء التي كان الدولار فيها بـ 18 جنيهًا، بينما السعر الرسمي في أكتوبر 2016، سجل 8.8 جنيه رسميًا.

في بداية نوفمبر، أعلن البنك المركزي المصري، التعويم مرة أخرى، ووضع سعر 13 جنيهاً للدولار، لكن في نهاية العام وصل السعر إلى 20 جنيهًا، وكأن السوق السوداء قررت إعلان الحرب على المواطن المصري من خلال شخصي "الجنيه"، يومًا بعد الآخر، بدأت أشعر بمعاناة من يخرجني من جيبه، بدايتي لم تكن كذلك، لكن عندي رغبة – مثلكم- في العودة لنقطة البداية.. ذهبيًا حرًا.

صباح يوم جديد، يبدأ الموظفون في دخول البنك، يقترب حارس الأمن من أحدهم هامسًا: "البنك مسكون بالعفاريت"، وما ان وصلت الحكاية للمدير المسؤول، لم يستطع كتم ضحكته، لأن ما سمعه الحارس في الليلة الفائتة لم يصدر عن عملة ورقية، بل هو فيلم وثائقي عن رحلة الجنيه المصري، عمل بشكل تلقائي من جهاز كمبيوتر، نسي أحدهم إغلاقه.