حَكَايا العم الطيب
لي عم لطيف للغاية، تعلمت منه الكثير في شأن التسامح الديني وقبول الآخر، كان عضوا بارزا في رابطة مشجعي فريق الكرة بمدينتي الصغيرة، ورغم كونه شتاما لمنافسي فريقه ولاعبيه وجماهيره وكثيرا ما كان يبرر قذف الطوب بالملاعب، وقت أن كان الطوب جزءًا من شروط إقامة المباريات الكروية، تماما كالحكم وحامل الراية والراية ذاتها، إلا أنه علمني التسامح تجاه ذوي العقائد الأخرى، وعلمني أن أصب جامّ غضبي تجاه الآخر الرياضي بدلا من الآخر الديني، وأنك يُمكن أن تجتمع مع المسيحي في خندق واحد لتقذفا معا لاعب نادي المريخ البورسعيدى بالطوب، لأنه أصاب نجم هجوم فريقنا المهدد بالهبوط، المهم أنه كان هناك آخر شرير بخلاف الآخر الديني.
وعمي هذا بشكل عام كان يصادق الجميع، حتى جماهير فرق الخصوم، يتقاسم معهم السجائر والحكاوي ولعن اتحاد الكرة الظالم لفرق الأقاليم قبل المباراة، ثم يتبادلون السباب أثناء المباراة عبر الحواجز الحديدية الفاصلة للدرجة الثالثة يسار عن الثالثة يمين، ثم يستكملون صداقاتهم ومشاجراتهم في مباراة الدور الثاني ببلدة المنافس.
كان عمي يجلس أحيانا خلف دكة الاحتياطي لفريق المدينة في مباريات الدوري الممتاز، وكثيرا لم تكن ترضيه التغييرات الفنية للفريق أثناء المباريات، فكان يصب غضبه على الجهاز الفني واللاعبين المقصرين، ويثير غضب الجماهير نحوهم لما يمنحونه من ثقة.
وكان المدير الفني في ذات الوقت جارا للعائلة، ويعرف أفرادها جميعا عن قرب، لكن العم لم يكن يعير هذه الجيرة اعتبارا، أمام المصلحة العظمى لفريق البلدة.. حتى جاء اليوم الذي فاض كيل المدير الفني للفريق من تصرفات العم، فذهب إلى بيت العائلة، وقابل جدتي في البيت وقال لها: هذا كارنيه دخول مباريات مجاني لابنك، يدخل به أي موقع فى الاستاد، عدا المكان الذي أجلس به، ليتركني وشأني.. وبذلك أزاح المدير الفني العم العزيز عن طريقه وأمن شره لبعض الوقت.
عمي هذا أيضا وطني عظيم ففي خلال فترة تجنيده بمطلع السبعينيات، كان هو وعم آخر على الجبهة يؤديان واجب الوطن، وقد عاد عمي بإجازة ضمن الإجازات التي توحي للإسرائيليين بوجود حالة استرخاء بالجيش، في إطار الخداع العسكري لخطة العبور.
قامت الحرب وكان العم بإجازته وسط العائلة، فأصرَّ جدِّي أن يقطع عمي إجازته، وجعل بناته يقمن بكي البدلة العسكرية المغسولة بمكواة الرِّجل، وهي ما زالت مبتلة، كي تسرع بجفافها، قائلا: قاعد هنا ليه؟! أجري حارب مع زمايلك.. وقتها كان العم الآخر مجندا بسلاح الإشارة في جبل عتاقة بالسويس، تائها بالصحراء، بعد ما ضرب الإسرائيليون موقعه بالطائرات، واستطاع النجاة، وعاد ضمن ما عرف بمعسكر الشاردين للجنود التائهين بالصحراء أشعثا أغبرا.. هكذا ضرب جدي مثلا رائعا في الوطنية وقدم اثنين من أبنائه للقتال.. جدي لم يدرس بالجامعة الأمريكية لحسن الحظ.
ذهب العم للحرب، وعبر القناة في ظروف هادئة بعض الشيء. وظل أبي يعايره: لقد عبرت وحدك من دون مخاطرة.. عاد العمّان من الجبهة، ووظف السادات عميّ بالحكومة، وأصبح عمي هذا عضوا بارزا برابطة المشجعين لفريق المدينة.. أما جدي العجوز مُنعَّم الوجه، فظل قرابة ثلث قرن يقوم الليل دون أن يعلم أهل بيته، وظلت بناته غير محجبات، حتى تحجبن بإرادتهن أثناء هوجة الثمانينيات قرب مغادرته للحياة.
حافظ عمي على ارتدائه نظارة شمس سوداء، غالبا ما كانت ستيناتية الطراز، أقرب لنظارات ضباط فيلم "الكرنك"، فإذا ما ذهب لحضور مباراة كرة قدم بالمدرجات، حرص على ارتدائها، وإذا ما ذهب للصلاة بجلباب أبيض كانت النظارة حاضرة تحجب عينيه، وإذا ما ارتدى بدلة كلاسيكية، كانت النظارة جزءًا من الطاقم.
بخلاف مصاحبتي له في مدرجات ملاعب الكرة، زاد عمي في تعليمي التسامح الديني بدرجة كبيرة، حينما علمني حكمة عظيمة الأثر، كان هو رائدها ومبتكرها على ما أعتقد، وهي: أن صلاة الجمعة "بالأسبوع كله" وكان يروغ من أداء باقي الصلوات تكاسلا.. ظل عمي أغلب عمره يصلي الجمعة فقط، وحينما كانت تنصحه جدتي بالمواظبة على الصلاة كان يرد في ثقة: بأن صلاة الجمعة بالأسبوع كله، وأن الأمر محسوم لديه.. وهو متأكد دائما أن الله غفور رحيم وسيسامحه، كما أنه يرتكن إلى شفاعة النبي بثقة شديدة، بشكل يضع عليه كل رهانه الدنيوي.
لشد ما تعلقت بعمي آمنت بهذه النظرية في طفولتي، واتخذتها حجة للتقصير في أداء الصلوات والتهرب من أدائها.. حتى لاحظتْ أمي أنني بدأت أردد ذات العبارة، فنهرتني بشدة حتى انضبطت، ومررت بفترة مراجعة فكرية مبكرة حتى آمنت أن صلاة الجمعة لا يصح أن تساوي الأسبوع كله، لا بالمنطق الرياضي ولا بالشرع الديني.
بعدما توفي أبي، رتبت خطاباته وأوراقه القديمة، وجدت بينها خطابا موجها من عمي هذا إلى والدي، المقيم حينها بالإسكندرية بعيدا عن بلدته، جاء في مقاطع منه:
"..... في 8/ 6/ 1967 .. الساعة الخامسة والنصف مساءًً وكنا نسمع الأخبار..
أخي العزيز، أكتب لك هذا الخطاب عقب وصول خطابك مباشرة، وقد كنا ننتظر بلهفة وشوق هذا الخطاب منذ زمن، بعد أن ساورنا الشك وخصوصا الست الوالدة، أنك قد ذهبت إلى الجيش، لأننا أرسلنا لك الخطابات إلى اللوكاندة..
...... الأسرة بخير، وقد ذهبت إلى الحرس الوطني، ولكنهم لا يقبلون أقل من 18 سنة فانضممت إلى المقاومة الشعبية، وكم كنت أود أن أشترك في الجيش نفسه حتى أحقق أهداف وطني ولو بعضا منها.
أخى/
أرسلت إليك في خطابي السابق على نظارة شمسية، ولكن لم يصلك الخطاب - فأرسل إليك اليوم لأعرفك بأنني محتاج لنظارة شمسية على هذا النموذج "رسمة نظارة بخط اليد بقلم أزرق" ، من أسفل عادية ومن أعلى ألوان، وهي موجودة بالإسكندرية عن هنا، وأريدها منك حتى تكون ذكرى مع الأيام، ولأن الميزانية لم تعد تسمح بشراء ورقة واحدة من البوستة عندي، فأرجو الرد يا عزيزي في أقرب وقت، وإذا أرسلتها فعن طريق البوستة.
ولك أعطي سلام وأشواق من بلدك الحبيب..
أخوك ......"
هكذا اتضحت لي الجذور القديمة للولع بالنظارة الشمسية، وكونها حلما عزيزا في الشباب المبكر، انغرس مبكرا فدام أثره بامتداد العمر.. وقد أتيح لي جمع بعض لقطاته، ما بين مشاهدات الحياة وسرد الأقلام، محاولا استقصاء صورة واضحة تمكن لي سبيلا إلى حيث الوعي والحكمة.
ظل عمي يؤمن بنظرية صلاة الجمعة المتفردة أغلب حياته، ولصدق إيمانه بارك الله له في رزقه وأولاده، وأدى رسالته في الحياة بشكل تام.. وهو الآن بالمعاش، وضبطته يصلي صلوات أخرى غير الجمعة بالمسجد.