التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:21 م , بتوقيت القاهرة

تحية كاريوكا.. محظية تعبدت فى محراب الرقص الشرقى

ترقص بجسدها المغرى اللين الواثق بنفسه في مسافة صغيرة للغاية، تفتت قلبك فيها، تحول الشبر ونص الذي ترقص فيه إلى مسرح بأكمله، دلال مصري أصيل معجون في لذة الغمزات والمناورة النسائية، يوحى لك أنها امرأة سهلة للغاية للاقتراب منها وتقبيلها.


تحيه كاريوكا


ولكنها عندما تفهم إشارتك الساذجة، تبتعد في دلال يقتلك مرات، تحترف هى الغواية فتترك غارقا في بحر الأنوثة الطاغية.


هكذا كانت تجد الراقصة المبهرة تحيه كاريوكا نفسها عند الرقص وتصف ذاتها يوما:" شعوري أثناء الرقص كان أنني في معبد الفن".



إمراة حرة تعرف جيدا قيمة جسدها، لذا رفضت أن تهينه في أدوار رخيصة، لم تخنه يوما، بل حافظت على موهبتها، لتعلى من قيمة الرقص الشرقي، وتجعل منه مدرسة عميقة تغرى بنات جيلها، فتحول على يديها إلى أسطورة كتبت ملامحها على خريطة إيقاعاتها الفنية التي جعلتها تقتنص لذاتها تعريفا، وتخلق رقصة تعرف به.


إذا أحببت شيئا بصدق طاغ أحبك ومنحك إيمانه الحر، وإذا عرفت قيمة ذاتك جيدا صنعت أسطورتك الخاصة، وملامحك المميزة، ورحلتك الفريدة التي لا تقلد أحدا.


هكذا كانت تحية كاريوكا، تعرف جيدا مسئولية رحلتها، وأن عليها أن تقتنص لها مساحة خاصة تعرف بها، لذا وقعت في غرام رقصة " الكاريوكا" التي ستحمل فيما بعد اسمها، وهى رقصة برازيلية تعتمد على الجماعية، ولكن جاء الخواجة "إيزاك" ليغير ملامحها لتلائم جسد الفتاة "بدوية" التي عرفناها لاحقا بإسم " تحية كاريوكا"



من كازينو بديعة مصابنى، انطلقت "تحية" لتختار رقصة " الكاريوكا" لأنها تناسب وتعبرعن قوة شخصيتها، لذا كانت تلقبها "مصابنى" بـ"المايسترو" لتمكنها الشديد في رقصتها.


اختارت "بدوية" الهروب من بيت أخيها بعدما أراد أن تصبح خادمة لزوجته، عندما وجدت في ذاتها موهبة الرقص والفن، وبدأت مشوارها من القاهرة وهى تستقل القطار، ولم يكن لديها أجرة القطار، فتطوع الركاب إلى دفع ثمن التذكرة لتصب إلى كازينو «بيجو بالاس» عند سعاد محسن براتب شهري 3 جنيهات في فرقة كومبارس، وبعدها إلى "مصابنى".


بدأت شهرتها بين الأمراء والنبلاء، الذين أقدموا على ارتياد «كازينو بديعة» لمشاهدة الراقصة التي حررت الرقص الشرقي من الأجانب والمستعمرين - كما قيل عنها - وتعلمت تحية رقصة «الكلاكيت» عند الفنان «روجيه»، والرقص الشرقي من «حورية محمد»، والصاجات من "نوسة" والدة الراقصة "نبوية مصطفى".


إذا أحببت شيئا بصدق طاغ أحبك ومنحك إيمانه الحر


لم يقف طموح "كاريوكا" عند الرقص فقط، ولكنه امتد إلى التمثيل، حيث شاركت في أول فيلم سينمائي عام 1939، وهو فيلم الـ «دكتور فرحات» مع المخرج توجو مزراحي الذي جعلها ممثلة وراقصة في فيلم «الستات في خطر»، وتعلمت الفرنسية والإنجليزية، لتتوالى أعمالها «رنة الخلخال» و«ابن للإيجار» و«شباب امرأة» و«لعبة الست» و«كيدهن عظيم» و«مين يقدر على عزيزة» و«درب العوالم» و«ليلة ممطرة» و«أجنحة الصحراء» و«حبيب قلبي»... وكان آخرها «سوق النساء» و«يا تحب يا تقب» العام 1994



وخلال رحلتها في مجال الرقص تحولت إلى رمزثقافى، هكذا يصفها المفكر الكبيرإدوارد سعيد، الذي خصص مقالة كتبها عنها وصفها فيها:"ظاهرة لا تقبل الترجمة إلى الثقافات الأخرى.. رقص تحية العمودي يوحي بسلسلة من الملذات الأفقية، فهو يوحي في الوقت نفسه بنوع من المراوغة اللطيفة التي تستعصي على التحديد العقلاني.. تنتمي إلى تقليد "العوالم"، الذي تكلم عنه كبار عارفي مصر الحديثة مثل فلوبير وادوارد لاين، أي المحظية التي تجمع الثقافة إلى فنون الغواية الجسدية".


يبحر إدوار سعيد في وصفها :"محلية تماماً ومستعصية على النقل وغير متاحة تجارياً إلا في تلك الأماكن، ولفترات قصيرة لا أكثر من 20 الى 25 دقيقة تستغرقها وصلاتها".


 



الراقصة والسياسي


اشتهرت "كاريوكا" أنها راقصة السياسيين، فلم يحضر ضيف إلى مصر إلا وطلب رؤية «الست تحية» ومنهم الزعيم التركي «مصطفى كمال أتاتورك» كما رقصت في حفل زفاف الملك فاروق - آخر ملوك مصر - ووصلت شهرتها إلى العالمية حتى أن شركة «فوكس» الأميركية تعاقدت معها العام 1945 لتلعب بطولة فيلم «أنا وملك سيام»، لكن مرض والدتها أجبرها على العودة إلى مصر وترك هوليوود وأحلام العالمية.


تستمر "كاريوكا" فى رحلتها، ومعها تتقن لعبة تغيير جلدها في أكثر من شخصية قدمتها وهى ترقص، لتتربع على رأس قائمة الشخصيات السينمائية التي قدمتها، وهى لم تتخل عن الفن شخصية "سمارة" الفاتنة التي تغوى الرجال بجسدها الراقص وقلبها الذي يسكن عقلها، قبل أن تسقط في النهاية ببئر الحب كأي إمراة ناعمة تعشق وتكتوي بناره.


 نجدها بجسدها الرشيق الممتلئ بالغواية تقدم رقصاتها إلى شكري سرحان، لتغتال براءته، وتأخذه إلى عالمها الأنثوي الناضج المليء بالشهوات، لتدافع عن حبها وهى تدفع حياتها لهذا المصير، وهو ذاته المصير الذي عذب " كاريوكا" في حياتها لاحقا، بعد رحلة حب قطعتها مع المخرج المسرحي "فايزحلاوة"، الزوج رقم 14 في تاريخ زيجاتها المتعددة ، والذي كان يصغرها بأعوام كثيرة، ليستولى في نهاية الأمر على كل رصيدها الفني ويحرمها من عقود مسرحياتها ويستنزفها حتى آخر قطرة، قبل أن يتدخل الشيخ محمد متولى الشعراوى بينهما ليقوم بتطليقهما وينهى رحلة عذابها معه، ليبلغ رصيد المسرحيات التي قدمتها مع "حلاوة" ما يقرب 18 مسرحية، بدأتها بعرض "بلاغ كاذب" لتمتد إلى كل من "شفيقة القبطية" و"ياسين ولدى" و"شقلباظ".



في آخر مشاهد حياتها... وجهت نشاطها للعمل الخيري وتبنت طفلة صغيرة تولت تربيتها الراقصة فيفي عبده - بعد رحيلها - وعاشت آخر حياتها محجبة تقيم موائد الرحمن في شهر رمضان وأدت فريضة الحج.


إقرا ايضا 


المخرج أحمد سالم.. طيار قتلته رصاصة أسمهان