التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 03:34 م , بتوقيت القاهرة

الصحفية "ليلى مراد"..الجانب الخفي الذي لا نعرفه عن "بنت الأغنياء"..تمنت ألا تكون مغنية

يا مسافر وناسي هواك..ريداك والنبي ريداك..


لم تكن ليلى مراد التي مرت الذكرى المائة على ميلادها أول من أمس – وُلدت في السابع عشر من فبراير 1918- مجرد فنانة مصرية عادية، أو مطربة من المطربات التي وضعت بفنها بصمات هائلة في طريقي "الغناء" و"التمثيل" خلال فترة الأربعينات، بل تميزت ليلى، أو "ليليان زكي مراد موردخاي" بأنها تركت أثرا لا ينمحي بسهولة، ستتذكر أجيال عديدة هذا الفن، وهذا الإرث الفني الهائل، لكن ليس هو الوحيد الذي يمكن في مئويتها استعادته، بل هناك إرث مختلف، لم يتحدث عنه كثيرون، بل غاب وراء استعادة القضايا الخلافية حول ليلى مراد.


من القضايا الخلافية التي شكلت ضجيجا طغى على الفن الراقي الذي تركته ليلى مراد، قضية إسلامها، كما احتلت قصة الحب وزواجها من أنور وجدي الحجم الأكبر من سيرتها الفنية، مما غيّب مناطق ثرية من هذه السيرة.


ليلى مراد هي الوحيدة بين النجمات التي حملت عناوين الأفلام اسمها، ومن ذلك "ليلى بنت الفقراء"


بحلفك بشبابي..اللي أنت عايش فيه متهني


في كتابه " الوثائق الخاصة لـ ليلى مراد" الصادر عن دار الشروق عام 2016، يكشف الناقد الفني والسينمائي  "أشرف غريب" جوانب عديدة من حياة قيثارة الفن، بعضها معروف، مثل أنها لم تكن مجرد مطربة قادها جمال صوتها إلى الظهور كممثلة على شاشة السينما، إنما واحدة من المطربات القليلات التي صنعت حضورا استثنائيا فى تاريخ الفن العربي، حتى في ظل سنوات احتجابها الطويلة.


غلاف كتاب أشرف غريب


يشير أشرف غريب إلى أنها أول نجم شباك في مسيرة السينما المصرية يقبل الجمهور على أفلامها دون الالتفات إلى أي عنصر فني آخر شارك في هذه الأفلام، وأولى اثنتين لا ثالثة لهما حملتا لقب " سندريلا" قبل سعاد حسني التي ظهرت بعد 4 أربع سنوات من توقف ليلى عن التمثيل عقب فيلمها الأخير "الحبيب المجهول" عام 1955.


كما أن ليلى مراد هي الوحيدة بين النجمات التي حملت عناوين الأفلام اسمها، ومن ذلك "ليلى بنت الفقراء" و"ليلى بنت الأغنياء"، كما أنها الوحيدة التي ظلت بعد أربعين عاما من اعتزالها، وحتى وفاتها في نوفمبر 1995 تحافظ على نجوميتها وحظوتها لدى الجماهير العربية.


الحب جميل..للي عايش فيه..له ألف دليل اسألوني اسألوني عليه



يغطي كتاب أشرف غريب العديد من الجوانب في سيرة ليلى مراد، ومنها أصولها اليهودية، وملابسات إسلامها، ومحاولات إسرائيل الدءوبة النيل منها ومن مصريتها، فضلا عن زواجها من أنور وجدي، كما يتناول مؤلف الكتاب جانبا غير مطروق من سيرتها، ألا وهو المقالات الصحفية التي كتبتها ليلى مراد في الصحافة المصرية فترة الخمسينات، مما يعطي صورة مغايرة لما ارتبط في الأذهان عن هذه الفنانة التي كانت أعظم نجمات الغناء والتمثيل في مصر فترة الأربعينيات.


ليلى


في مستهل الكتاب، يستعرض المؤلف الظروف السياسية التي شهدتها مصر مع ميلاد ليلى مراد، قبل ثورة 1919 بعام واحد، إذ كانت مصر على موعد مع مخاض فني وسياسي كبيرين، خاصة مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، والغليان في الشارع ضد الاحتلال، وما ترتب عليه من أحداث الثورة وكذلك صدور دستور 1923.


ارتبطت نشأة ليلى مراد بهذه التطورات السياسية، وكذلك انتعاش حركتي المسرح والموسيقى فازدهر المسرح الغنائي على يد الشيخ سلامة حجازي، ومن بعده منيرة المهدية، ثم لم يلبث أن ظهر كل من سيد درويش ونجيب الريحاني بثقلهما الفني وما أضافا إلى الساحة المصرية من تطورات فنية متلاحقة.


تكشف لغة المقال ثقافة هائلة وعذوبة وعناية في انتقاء صاحبته لمفرداتها


الدنيا غنوة..نغمتها حلوة احنا اللي نطير ونغنيها


وسط كل ذلك آمن المطرب اليهودي زكي مراد بابنته، المجتمع المصري المؤمن بالتعددية لم يجد حساسية في الاحتفاء بصوت زكي، وهو أحد تلاميذ سيد درويش وداوود حسني اليهودي أيضا، مما انعكس ذلك على نشأة ليلى مراد وفرص نجاحها الفني بعد ذلك.


يتتبع غريب في كتابه مراحل دخول ليلى مراد الإذاعة المصرية بعدما منحها الفنان مدحت عاصم المشرف على الموسيقى بالإذاعة فرصة الغناء عبر ميكروفون الإذاعة أسبوعيا، مما حقق لها الانتشار، وهي لم تزل بعد في السادسة عشرة من عمرها.


كذلك يتتبع سيرتها السينمائية، منذ فيلمها الأول " يحيا الحب" وإطلالتها فيه مع "محمد عبد الوهاب" في سبتمبر 1937، ويتناول قصة إشهارها إسلامها عام 1947، مزودا كتابه بوثائق بالغة الأهمية، وشديدة الندرة، ولعل أبرز أجزاء هذا الكتاب، ذلك الفصل الذي خصصه غريب للمقالات الصحفية التي كتبتها ليلى مراد لمجلات الكواكب بعد اعتزالها، وتحمل نوعا من البوح غير معتاد، ففي المقال الذي نشرته ليلى مراد بمجلة الكواكب عام 1954، بعنوان "أنا" تقول ليلى مراد أنها ابنة "الحظين" الحظ الباسم والحظ العاثر ، الضاحك والعابس.


خبر صحفى عن ليلى مراد بعد انتهاء تصوير فيلم ليلى بنت الريف


تتطرق ليلى مراد في هذا المقال إلى كشف نادر عن حياتها، وأمنياتها لها، فيكتشف قارئ الكتاب أن الفنانة التي ملأت الدنيا أعمال غنائية مهمة، لم تكن تتمنى أن تكون مغنية، ولم تكن تتمنى أن تصبح ممثلة، بل كانت تتمنى أن تكون مدرسة، أو زوجة كباقي الزوجات السعيدات.


في نفس المقال تشير ليلى مراد إلى أن والدها تعرض للحرب في رزقه، بعد أن أفسح له صدرا طويلا، فقذف أباها بها كورقة أخيرة في يده على مائدة الحياة، كي يستمد القوت له، ولأخوتها منها، تقول ليلى مراد في المقال الذي يورده أشرف غريب في كتابه: كان القوت عسير المنال إلا على المطربات، وأهل الفن، حيث المال الوفير، والعيش الرغيد.


“مطربة السينما الاولى ليلى مراد بنت الاكابر 1953


تبدو قيثارة الفن كأنها توجه اللوم إلى أبيها لأنه وضعها في هذا المسار، لكننا نسأل أنفسنا، ماذا لو لم تكن في حياتنا ليلى مراد؟ لم نكن سنستمتع بهذا الإرث الفني الكبير لها، ربما لم نكن سنجد هذا الفن الكبير الذي خلفته لنا ليلى، إلا أن هذا لا يمنع أن يتفاعل قارئ الكتاب بينما يقرأ ما تمنته لنفسها، وحسراتها على ما فاتها من حياة هادئة، وسعيدة، تقول ليلى مراد في نفس المقال: باعدت حياتي الجديدة بيني وبين الزواج الموفق، الزواج في كنف ظليل لا حسد فيه، ولا وقيعة، ولا ضغينة.


تكشف لغة المقال ثقافة هائلة وعذوبة وعناية في انتقاء صاحبته لمفرداتها، يؤثر المقال في نفس قارئه، ويشي بالمعرفة باللغة التي تتمتع بها ليلى مراد، وموسوعيتها.