التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 05:03 ص , بتوقيت القاهرة

ماذا ننتظر من العالم في ليبيا؟

العملية العسكرية المصرية على ليبيا تعكس، في جانب منها، نوعاً من الإدارة الشجاعة التي تتحلى بالقدرة على المبادأة في مواجهة المخاطر. هذا النوع من الإدارة السياسية مطلوب في هذه المرحلة بالذات، حيث المخاطر والتهديدات لا تخفى، وتأجيل مجابهتها يفاقمها.

على أن شجاعة المواجهة لا تكفي وحدها للوصول إلى الهدف. وكما قال المتنبي "الرأي قبل شجاعة الشجعان.. هو أولاً وهي المحل الثاني". لابد أن تقترن الشجاعة إذن بقراءة سليمة للموقف الدولي. قراءة تسمح بالحصول على أقصى ما يُمكن أن نحصل عليه، وتجنب التبعات السلبية لتحركنا قدر الإمكان.

وأول خطوات القراءة السليمة هي أن نرى الموقف الدولي في حقيقته، لا كما نرغب نحن أن نراه. وهناك سوابق كثيرة لقراءة خاطئة للمواقف الدولية أوردتنا موارد التهلكة. من ذلك على سبيل المثال، ما تصورته مصر من موقف مساند على طول الخط من جانب الاتحاد السوفيتي قبل أيام من حرب 67، وإذ الأمر على خلاف ذلك تماما. لقد قرأنا في الموقف السوفيتي ما أردنا أن نقرأ، لا ما كان عليه الموقف بالفعل. ينبغي ألا نُكرر هذه الأخطاء القاتلة.

ما حقيقة الموقف الدولي من ليبيا؟

1.    العالم الغربي يُدرك خطورة التدهور الأمني في ليبيا، ويُدرك كذلك خطورة أن يتحول هذا البلد إلى قاعدة تمركز لداعش في المغرب العربي. في ديسمبر 2014 صرح قائد المنطقة الإفريقية في الجيش الأمريكي بأن داعش يدير معسكراً لتدريب نحو 200 عنصر في درنة. الأرقام تزايدت منذ هذا التاريخ، وهناك احتمال لأن يتجه داعش إلى ليبيا (الغنية بالبترول والقريبة من أوروبا) تحت وطأة الضربات في المشرق العربي. هذه الصورة كلها، دون شك، ليست غائبة عن ذهن العالم الغربي.

2.    على أن الدول الغربية ليست سواء من حيث درجة شعورها بالتهديد القادم من ليبيا. طبيعي أن الدول الأوروبية، وخاصة تلك المُطلة على المتوسط، تشعر بتهديد أكبر من ذلك الذي تشعر به الولايات المتحدة. التهديد بغزو روما كان حاضراً في فيديو ذبح الأقباط. السواحل الإيطالية تبعد 350 كلم عن ليبيا، أي أن الأمر يتطلب رحلة بالمراكب البدائية لا تستغرق سوى ساعات.

إيطاليا استقبلت العام الماضي 142 ألف مهاجر غير شرعي من ليبيا وحدها. هذا العدد مرشح للزيادة في العام الحالي. ليس هناك ما يمنع أن يختلط المهاجرون غير الشرعيين الباحثون عن الرزق، بإرهابيين يخططون لعمليات داخل إيطاليا، أو يتخذونها معبراً لأوروبا، حيث ينفذون عمليات في مدن الاتحاد الأوروبي (لو كنتُ داعشياً لكانت أوروبا هدفاً استراتيجياً لعملياتي.. حيث التنقل سهل والتجنيد ميسور، والعمليات مؤثرة وموجعة وذات صدى عالمي هائل). الخلاصة أن أوروبا تشعر بتهديد أكبر من الفوضى الليبية. الولايات المتحدة في المقابل لديها رفاهية التفكير الهادئ البعيد عن مكامن الخطر.

3.    الدول الغربية تخشى صعود الإسلاميين في ليبيا، ولكنها ما زالت ترى أن ما يجري هناك يدخل أساساً في باب الصراع السياسي، وليس مُكافحة الإرهاب. وهي تميز بين جماعات تُمارس العنف مثل داعش وأنصار الشريعة، وأخرى يُمكن احتواؤها في عملية سياسية مثل الجماعات المنضوية تحت لواء المؤتمر الوطني العام (البرلمان المُنحل).

4.    وعليه، ما زال الغرب يرى نافذة مواربة لحل سياسي يُجنب ليبيا الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة. ومن زاوية التفكير الغربي، هذا الحل يُعد أقل تكلفة إذ لن يكون من شأنه توريط هذه الدول في نزاع مفتوح مع الإسلاميين. هذا النزاع سيفرض على هذا الدول حتماً مواجهة قد تأخذ شكل هجمات في داخل دولهم، وهذا آخر ما ترغب فيه.

5.    أما الولايات المتحدة، فهي أولاً لا ترغب في الانخراط بأكثر مما ينبغي في مستنقع الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط. الإدارة الأمريكية الحالية هي إدارة "انسحابية" تُفضل النأي بنفسها عن الصراعات، وتختار تأجيل التعاطي معها (كما حدث مع الحرب الأهلية السورية)، ولا تخوضها إلا مضطرة (كما جرى بعد تمدد داعش في العراق وسقوط الموصل وإبادة الإيزيديين).

والولايات المتحدة، ثانياً، تعتبر أن المعركة الأساسية تدور في المشرق العربي، لا في ليبيا التي تراها ساحة فرعية. وهي، ثالثاً، لا تُفضل، كقاعدة عامة، أن تقوم دولة من الدول بتنفيذ سياسة استباقية تنطوي على استعمال للقوة (كما فعلت مصر في ليبيا).

6.    جوهر الموقف الدولي إذن هو محاولة احتواء النزاع في ليبيا بالسياسة والدبلوماسية، وهو ما عبر عنه البيان الصادر عن كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا أول أمس، وهو البيان الذي استبق المناقشات في مجلس الأمن. هذا البيان تحدث عن متابعة العملية التفاوضية بين الأطراف الليبية المتصارعة (حكومة طبرق الشرعية، وحكومة الإسلاميين المنتهية صلاحيتها في طرابلس).

7.    والخلاصة أنه لا نية لتدخل دولي عسكري في الأزمة الليبية في ظل الظروف الراهنة.

هذا عن الموقف الدولي، فكيف تنظر مصر للصورة؟

 في بيانه أمام مجلس الأمن أمس، عرض وزير الخارجية سامح شُكري لصورة مختلفة للوضع في ليبيا كما تراه مصر. أصل الأزمة الحالية هو رفض الإسلاميين الاعتراف بنتيجة الانتخابات التي جرت في يونيو الماضي واسفرت عن هزيمة إضافية لهم (في انتخابات يوليو 2012 فاز الإسلاميون بـ 18 مقعداً من أصل 80، وفي انتخابات يونيو 2014 حصلوا على نسبة أقل لا تتجاوز 10% من مقاعد البرلمان).

التيارات الإسلامية، مدعومة بقوى إقليمية، اختارت الاحتكام لقوة السلاح لفرض واقع على الأرض، فاجتاحت العاصمة طرابلس في أغسطس الماضي لينتقل الوضع في ليبيا إلى مرحلة الانقسام التي نشهدها. شُكري قال إن على العالم مجابهة العنف الجهادي بحسم، واستبعاد من يلجأون إلى العنف من أي عملية سياسية. الصورة التي عرضها للوضع لا تعكس صراعاً سياسياً، كما يرى الغرب، ولكن فرضاً للإرادة بالعنف، وبقوة السلاح.

 هناك فجوة لا تخفى بين موقف مصر من الأزمة الليبية من ناحية، ورؤية العالم الغربي من ناحية أخرى. أمامنا تحدٍ كبير لردم هذه الفجوة في المرحلة القادمة.

كيف تتحرك مصر؟

1.    لن يكون مُمكناً تحويل الموقف الدولي 180 درجة، بدفع الغرب للتدخل العسكري (مثلاً)، في فترة قصيرة. وبالتالي لابد من العمل على زحزحة الموقف الغربي خطوة خطوة. العملية العسكرية خطوة هامة وجوهرية لأن معناها أن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي إذا ما تعرض أمنها للخطر، حتى ولو استمرت السلبية الدولية. وهذه رسالة، وقد جاءت مصحوبة بالفعل على الأرض، غاية في الجدية، وستصل إلى العواصم الغربية بلا شك.

2.    دعوة مجلس الأمن للانعقاد لمناقشة الموقف هو تحرك دبلوماسي سليم، لأنه يؤكد أن مصر لا ترغب في العمل وحدها، وأنها لا تستهين بإطار الشرعية الدولية، وإنما ترغب في التحرك من خلاله.

3.    تحتاج مصر إلى غطاء عربي في صورة قمة عربية تُسبغ الشرعية العربية المطلوبة على تحركها في ليبيا.

4.    نحن لا نطلب من العالم التدخل عسكرياً، وإنما نطلب، أولاً، الانتباه لخطورة ما يجري في ليبيا على أمن المنطقة وسلام العالم. ونطلب ثانياً تمكين الليبيين أنفسهم من مواجهة هذه العصابات الإجرامية برفع الحظر عن تصدير السلاح إلى الحكومة الشرعية. ينبغي أن يُشكل ذلك التوجه فحوى تحركنا في المرحلة القادمة.

5.    لا غرض لنا من التدخل في ليبيا سوى حماية أمننا. هذه رسالة أخرى ينبغي أن تصل واضحة للعواصم الغربية التي يتشكك بعض الدوائر لديها في دوافع تحركنا. (مثلاً: أشارت بعض التقارير إلى أن مصر ترغب في أن تحل أزمة الطاقة التي تعاني منها، بعد أن صارت دولة مستوردة منذ 2013، بالحصول على عقود نفطية في شرق ليبيا بأسعار تقل عن سعر السوق).

6.    بعد أن تنتهي الضربة المصرية المُركزة وتحقق أهدافها، ينبغي أن نُعلن أننا سنستمر في الدفاع عن أمننا بالصورة التي نراها في المستقبل. يتعين أن نترك فرصة للأزمة الليبية لتتفاعل وتظهر مخاطرها بصورة أكبر أمام الرأي العام العالمي. جوهر الاستراتيجية هو التحرك خطوة خطوة، دون أن نتوقع حسماً في المرحلة الحالية.

7.    في الأسابيع والشهور القادمة، لابد أن يدور حديث صريح مع الولايات المتحدة عن الأزمة الليبية وغيرها من أوجه العلاقة الثنائية. العلاقة مع القوة القائد في النظام الدولي هي علاقة استراتيجية وستظل كذلك. أهمية هذه العلاقة بالنسبة لنا تظهر واضحة في أزمات مثل تلك التي نخوضها اليوم في ليبيا. أزمات تحتاج لتحرك في إطار المنظومة الدولية. لا يُمكن أن نتحرك في هذا الملف من دون تناغم مع المنظومة العالمية الحاكمة، وفي القلب منها الولايات المتحدة. أي مسار، بخلاف ذلك، يُعد مساراً مُكلفاً وغير مضمون النتائج.

8.    بالتوازي، يتعين أن نتحرك مع الدول الأوروبية (بخاصة فرنسا وإيطاليا) لبيان المخاطر والتهديدات المحتملة من ليبيا على أمن هذه الدول. لابد أن نضمن ظهيراً مُسانداً في منطقة المتوسط، بحيث تكون هذه الدول مستعدة للتعامل معنا -في السر والعلن- لمواجهة انفجار كامل للوضع في ليبيا.

9.    هدفنا الاستراتيجي هو تصعيد الضغوط على الإسلاميين في ليبيا (داعشيين وإخوانا)، وعزلهم في نظر العالم، بحيث تكون الدول الغربية مهيأة لأخذ موقف حاسم إلى جانب الفريق الآخر إذا ما حلت لحظة صراع عنيف وشامل (وأغلب الظن أن الأمور تتجه إلى هذه اللحظة، إن عاجلا أم آجلاً).