التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 08:35 م , بتوقيت القاهرة

لإيلافِ قُرَيْش.. وخطيئة قريش

<p dir="RTL">"لِإِيلافِ قُرَيْشٍ".. تلك آية كاملة في مصحف عثمان، هي الآية الأولى من سورة قريش. كلمتان مسبوقتان بحرف اللام. هكذا فقط!<br /><br /><span style="color: rgb(255, 0, 0);">ماذا تعني هذه الآية؟ هل ثمة جديد أضافته، أو قديم أخبرت عنه؟ هل تُفيد شيئاً في العموم؟</span><br /> <br />في الحقيقة؛ إنها لا تعني أي شيء على الإطلاق. لا هي خبر ولا وعظ، ولا هي أمر، ولا تحمل حتى صيغة نهي. لا تبدو أكثر من جملة مبتورة لا محل لها من المعنى.</p><p dir="RTL">صحيح أن كثيرًا من كلام العرب يحمل المواصفات ذاتها، لكن المشكلة أن هذه الجملة ليست مجرد كلام للعرب، بل هي آية في القرآن، أبلغ كتاب عرفه العرب في تاريخهم كله، وصاحب الفضل الأول، وربما الأخير، فيما هم فيه الآن!<br /><br />ماذا لو أضفنا الآيات التالية لهذه الجملة، فقرأنا: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. هل ازداد المعنى وضوحاً؟  هل اتضح الغرض من آيتين في كتابٍ كان قد صدر منه تحدٍ لأهل لسانه أن يأتوا بآية واحدة مثله؟  </p><p dir="RTL">الإجابة: لا.. <span style="color: rgb(255, 0, 0);">الغموض لازال قائمًا، والمعنى ما زال مبهمًا.</span><br /><br />فماذا عن السورة كلها إذن: "لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ". لاحظ أولاً؛ هذه السورة يُفترض أنها نزلت في مكة، في فترة إسلام الدعوة، إسلام العقيدة والمجادلة بالتي هي أحسن. ولاحظ أيضاً أن السور المكية غَلَبَ عليها الطابع الملحمي وجَزَالة اللغة، ووضوح البيان.<br /><br />في الواقع؛ إن الأمر هكذا، قد أصبح أكثر تعقيداً من ذي قبل، فقد يبدو مثلاً، مع القراءة الكاملة للسورة، أن للجوع محله من المعنى، خصوصاً وأننا نعلم أن رحلات الشتاء والصيف كانت رحلات تجارية، تُدر الربح على قريش وتزيد الرخاء، ومن ثم توفر الطعام، الذي بدوره يطرد الجوع إذا حضر. لكن ما علاقة هذا الموضوع بالخوف الذي تتحدث عنه السورة؟ خوف من مّن؟<br /><br />لا وجود لثمة صلة، لا من قريب ولا من بعيد، بين سياق السورة والخوف. ثم ما هو الغرض من حرف اللام الذي افتُتحت به؟ ما فائدته؟ هل أضاف شيئاً – بصورته هذه – سوى القليل من النشاز والكثير من حيرة اللغويين والمفسرين؟</p><p dir="RTL">إن هذا الحرف بالذات، حرف اللام، قد دوّخ سيبويه وحيره.  فقد وقف أمامه الرجل عاجزاً عن أن يجد له وظيفة لغوية أو  هيئة إعرابية منطقية، بدا كالمشعوذ أو الدجال، وهو يتلاعب بالكلمات كما يتلاعب المُهرج بالكرات الملونة، حين قال: إن هذا الحرف،  المتصل بكلمة إيلاف، لا علاقة له بكلمة إيلاف نفسها، بل له علاقة بالجملة التي جاءت بعدها، بحسب ما يفيدنا النيسابوري في تفسيره. سبحانك ربي!<br /><br />لقد كان أشهر النحاة، في محاولاته البهلوانية، يشبه الساذج الذي وقف عاجزاً لا يعلم لماذا لا يجر الحصان العربة برغم رؤيته أن العربة موضوعة أمام الحصان. والسر قداسة القرآن الكريم. القرآن الذي تكفّل الله بحفظه، بحسب ما يعتقد كل المسلمين. لكن هل القرآن هو مصحف عثمان؟! بكلمات أخرى؛ هل ما تكفل الله بحفظه هو ذاته مصحف عثمان بشكله ورسمه وترتيب سوره؟!<br /><br />لقد لاحظ ابن كثير أيضًا، رغم عدم إفصاحه، ما قد قلته للتو؛ بيد أنه عبر عن اندهاشه بكلمات مقتضبة. يقول: هذه السورة مفصولة عن التي قبلها.. كتبوا بينهما سطرا، هو بسم الله الرحمن الرحيم.<br /><br />ولئن بدا الخوف واضحاً في كلمات كبير المفسرين،  رغم عدم إهماله ما فطن إليه بحسه اللغوي، إلا أن الوضع كان مختلفا مع النيسابوري الذي قال ما معناه، لقد كانتا – أي هذه السورة والتي قبلها - سورة واحدة حتى زمن عمر بن الخطاب!</p><p dir="RTL">ويضيف صاحب غرائب القرآن ورغائب الفرقان، بالمعنى أيضاً: لقد كانت هذه السورة، والسورة التي قبلها سورة واحدة في مصحف أبي بن كعب.<br /><br />وبينما يرفض الطبري هذه الفرضية تماماً، نجده يؤكد هذا الكلام في موضع آخر بالقول: إن أهل البصرة كانوا يقولون: حرف اللام الذي بدأت به السورة لا علاقة له بالسورة، بل بآخر جملة في السورة التي سبقتها.<br /><br /><span style="color: rgb(255, 0, 0);">لنعيد القراءة إذن؛ بعد أن انقشعت الغمامة وحُلّت الألغاز:</span><br /><br />السورة التي تسبق هذه السورة هي سورة "الفيل" والتي تقول:  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *  تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ *  فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ .<br /><br />أي أن الله أهلك أصحاب الفيل.. وجعلهم كعصف مأكول. <span style="color: rgb(255, 0, 0);">لماذا؟</span></p><p dir="RTL">لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.</p><p dir="RTL">بهذا الشكل وحده تظهر الفائدة من وجود حرف اللام في أول في كلمة إيلاف. بل يصبح الحرف ضرورياً ولا يمكن الاستغناء عنه أبداً.  وكذلك تصبح الحكمة من وراء وجود سورة الفيل، التي هي مجرد تأريخ – غير معتاد في القرآن بل وشاذ عن منهجه – لواقعة حدثت للعرب قبل الإسلام أكثر جلاءً ووضوحاً.</p><p dir="RTL">إذ إن المعنى بعد رد السورتين لأصلهما الواحد يصبح كالتالي: ألم ترَ يا محمد ماذا فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم ترَ كيف أهلكهم حين جاءوا لترهيب قريش والقضاء على إِيلَافها التجاري، وكان في إهلاكهم أمنٌ لهم، وإزالة لخوفهم على مصالحهم، فترتب على ذلك أن انتعشت تجارتهم ومن ثم رزقهم ووفرة طعامهم!</p><p dir="RTL">إذن؛ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ. هكذا فقط تتسق السورة مع منهج الإسلام المكي.</p><p dir="RTL"><span style="color: rgb(255, 0, 0);">لكن يبقى السؤال قائماً: لصالح من تم فصل السورتين؟</span><br /><br />وأحسب أن الإجابة ليست بعيدة المنال؛ فإذا كان الحال حتى زمن الخليفة عمر بن الخطاب أن السورتين كانتا سورة واحدة؛ فالفصل بينهما حدث في زمن عثمان أو زمن الأمويين من بعده، وذلك لمصلحة قريش بالطبع، والتي كانت تسعى بكل قوة، مادية ومعنوية، لتمييز نفسها عن العرب، بتخصيص سورة في القرآن تحمل اسمها فقط، حتى ولو على حساب القرآن الكريم ذاته!</p><p dir="RTL"><span style="color: rgb(255, 0, 0);">هل حان الوقت لنعيد تعريف معنى حفظ القرآن؟ </span></p><p dir="RTL">وقبل أن أستأذن في الانصراف، على وعد بلقاء يوم الاثنين المقبل، يتوجب عليّ أن أقول إنني ما كنت لأنتبه لهذه القضية لولا إشارة فيكتور سحاب إليها.<br /> </p><p dir="RTL"> </p>