التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 04:33 ص , بتوقيت القاهرة

ضرورة نقل المعركة خارج الحدود

في 14 يناير 2011 سقط نظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، وبعدها بأربعة أسابيع لحق به الرئيس المصري حسني مبارك، ثم انتقلت المشاكل إلى ليبيا، ثم تواصلت بنظرية "الدومينو" في مناطق أخرى، النتيجة المهمة هُنا أنّ التشابُه في الظروف السياسية بين شعوب المنطقة كبير حتى لو اختلفت تفاصيل كثيرة، وأن الخلفية الثقافية للشعوب متقاربة بسبب أسس دينية وثقافية مشتركة.

بالطبع ليس هذا جديدًا، ولكن الجديد أن لهذه العوامل المتشابهة تأثير قوي للغاية على مواطني هذه الدول، التي لا يزال كثير منهم يتلقون في الجوامع خطابًا يتحدث عن مآثر وعظمة (الدولة الإسلامية)، فيشعرون باغتراب عن الدولة الحديثة في وطنهم، بل ويعتبرونها سبب المشاكل التي يعيشون فيها، والتي منعتهم من الاستمتاع بجنة الدولة الإسلامية.

سقطت  نظرية "مصر ليست تونس أو ليبيا ليست تونس ومصر"، برغم كونها صحيحة عند مقارنة الأفكار والأيديولوجيات والنظام السياسي والتركيبة السكانية إلخ، ولكنّها لم تُغير شيئًا في المعادلة السياسية في تلك اللحظة.

والخلاصة أن الأمن القومي لدولة مثل مصرمنذ دخلنا المواجهة مع الإخوان أصبح مفهومًا أوسع، فقد أصبحنا بالفعل جزءًا من معادلات سياسية وتحالفات إقليمية، وأصبح خصومنا في هذا الصراع يستهدفون إمّا القضاء على الدولة المصرية ككل،  أو تسليمها للإخوان ليقضوا عليها.

حدود أمننا القومي في دول جوارنا المباشر وفي دول حوض النيل، وفي تلك الدول التي  فيها عدد كبير من المصريين أو هي مصدر لتحويلات كبيرة من العملة الصعبة أو الاستثمارات أو السياحة، وبالتالي يُشكل استقرارها السياسي أولوية قصوى كدول الخليج، ولكن  أيضًا في بقية  دول البعد الثقافي، فالدول الناطقة بالعربية خصوصًا ودول الثقافة الإسلامية عمومًا هي مناطق يتشكل منها حلفاء يخوضون معركة التحديث أو أعداء يخوضون معركة ضدنا تأثرًا بالماضوية، وأعلى درجات الاستقرار والأمان من هذه الموجة الإرهابية في مصر والعالم، لن تتحقق إلا عندما تتم هزيمة الإرهاب وأفكاره المتطرفة وأيديولوجية العنف المسببة لها لدى تنظيمات الإسلام السياسي في العالم، والذي هو هدف قد يستغرق تحقيقه عقودًا، ولكنّه في النهاية هو الطريق للخروج من الأزمة.

دعنا نتذكر أن الأفكار المتطرفة تمت عملية إعادة إحيائها في مصر على يد الإخوان المسلمين، ثم امتزجت بروافد باكستانية وخليجية في الخمسينات والستينات، عندما خرجت من مصر ثم عادت  للظهور في الشرق الأوسط بعمليات إجرامية، قبل أن تمتلك مسرحًا قتاليًا في أفغانستان، ومن بعدها الصومال فالشيشان فألبانيا فكوسوفو فالعراق فنيجيريا فسوريا فليبيا إلخ، هؤلاء المتطرفون إذن يملكون تنظيمات دولية عابرة للحدود وللقارات وللغات كذلك، وبالتالي فعزل خطابهم الفكري وتحجيمه هو عملية مهمة لمنع تجديد عناصر جديدة.

يصبح بالتالي كل خطاب يستخدم اللغة العربية ويدعم الإرهابيين هو خطاب  كالسهم موجه إلى صدورنا في النهاية ( طال مسار السهم أم قصر)، وكل خطاب ديني يتبني فكرًا متطرفًا- مهما كانت لغته ومكانه- هو خطاب معادٍ لنا لأنه سيؤثر بالضرورة آجلاً أم عاجلاً في شعوب غالبية مواطنيها من المسلمين، وكل نظام سياسي يعادي الحداثة ويرفضها ويروج لمزج الدين والسياسة ورفض العلمانية، ويحاول الانتصار للتخلف هو نظام يحمل بداخله إما سر دماره الذاتي أو دمار الآخرين، وهو بالتالي خصم في معركة  التوجه للمستقبل، وكل دولة تدعم الإرهابيين في أرضنا هي عدو.

ولكن مثل هذا التصور يعني أننا في مواجهة  مفتوحة مع العالم كله تقريبًا، وليس هذا هو المقصود، المقصود أن يكون  هدفنا معروفًا لنا فلا نفقده في الطريق، ثم أن نرتب نحن أولوياتنا بحسب إمكانياتنا المتاحة من جهة والظروف الدولية والإقليمية من جهة أخرى، وأن نعمل باستمرار باستخدام الدبلوماسية  والإقناع والقوة الناعمة، والأهم  أن نحتفظ بالمسافة الضرورية التي تفصل بين التحالفات المرحلية والهدف الثابت، بحيث نتمكن من الابتعاد ببلدنا بعيدا عن كافة الأيديولوجيات المدمرة رويدا رويدا.

هذه معركة لانتزاع العنف من ثقافة مليئة بالعنف، وسيتم خوضها إذن على امتداد العالم كله، وستُستخدم فيها وسائل مختلفة عسكرية ودبلوماسية وسياسية واقتصادية وثقافية وفكرية على حسب المُتاح.

هذه المعركة ليست معركة تخص السيسي ولا معركة سُلطة أو  نظام سياسي  كما يروج البعض، بل هي الآن معركة الدولة المصرية، فإذا لم نحل هذه المشكلة  بشكل حاسم، فستتكرر مشاكل السنوات الماضية كل بضع سنوات مع عودة  مستمرة لإطلال الإرهاب برأسه وعودة انتشار فتاوى الكتب الصفراء إلخ، وظهور دجالين جدد يحظون بشعبية بعد حرق الأسماء القديمة (القرضاوي والغزالي ومحمد عمارة ظلوا ينشرون أفكارهم لعقود، والتي هي أفكار إخوانية، بينما ينعتهم الجميع بالوسطية والاعتدال).

انطلاقًا من هذا كله، فقد أصبح مفهوم أمننا القومي أكثر اتساعًا، وأصبح من الضروري أن نتدخل بشكل قوي في أماكن تقع خارج حدودنا، وبالتأكيد فإنّ هذا يعني أنْ نؤمّن مصالحنا في دول الجوار.

هذه ليست رؤية متفائلة أو تقوم على إحساس متعاظمٍ بالذات، كما يتصور البعض، فهي خطوط عامة للرؤية الفكرية التي تحكم المعادلة السياسية، وهذا لا ينفي أن هناك رؤى أخرى تقوم على أسس اقتصادية أو على أسس عسكرية أو مرتبطة بحدود قدراتنا، وأن مزيجًا من هذا كله هو ما يتم اتخاذ القرار على أساسه، وأنه من الطبيعي أن أي خطر يُهدد أرواح جنودنا أو مواطنينا بدرجة أكبر يجب تجنبه.

أهم ما في هذه الرؤية أن نستوعب أن الحديث عن كوننا يجب (ألا ننحاز) في الصراع الليبي هو مجرد وهم، فأحد طرفي الصراع هو عدو وخصم مباشر للدولة المصرية لكونه عضوًا بجماعة الإخوان، والآخر هو صديق ولنا مصلحة مباشرة معه، وأخرى غير مباشرة؛ لكونه حائط صد ضد ذات الأفكار المتطرفة من الامتداد لبلادنا.

وبنفس الطريقة فالقول بأننا يجب ألا ننحاز لأحد الفصائل الفلسطينية محض هُراء لأن حماس هي عدو صريح لنا لنفس السبب السابق. وفي كلا المكانين فإنّ التنظيمات الإسلامية تستهدف الأمن المصري، وتخترق الحدود، وتقتل المصريين بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

عندما يكون التنظيم الدولي للإخوان عدوك، وهو التنظيم الأم للجماعات الإسلامية، وكل هذه التنظيمات تناصبك العداء، فإنّ مَا يمنع أو يؤجل  المواجهة هو من جهة درجة إيذائه لك ولمصالحك، ومن جهة أخرى قدرتك على مواجهته دون خسائر مكلفة.