سوط المنافسة مصدر اللذة في Whiplash
أول عناصر سيفكر فيها أي قارئ مع تصنيف "فيلم موسيقي"، ستتضمن غالبا قصص الحب والأغاني والكوميديا والاستعراضات والأجواء المرحة. فيلم Whiplash هو فيلم موسيقي بالفعل، وموسيقي بالمعنى الحرفي للكلمة، لأن الموسيقى فيه إضافة إلى كونها محور وملعب الأحداث والصراعات، تضبط إيقاع كل العناصر الأخرى سينمائيا، وتحتل الصدارة كلغة دراما، لكنّه أبعد ما يكون عن كل العناصر السابقة، وأقرب ما يكون إلى أفلام المنافسات الرياضية الأمريكية العنيفة.
مصطلح Whiplash يشير لغويا إلى عدة معان، منها لسعة السوط (أثر الكرباج)، وأحد إصابات منطقة العُنق الطبية، ومقطوعة جاز موسيقية كلاسيكية شهيرة تتردد في الفيلم، وتبدو للوهلة الأولى سبب التسمية الرئيسي، لكن الفيلم يشير إلى المعاني الثلاثة كلها بشكل ما، ويترك تأثيرا حادا مؤلما أقرب ما يكون للسعة سوط فعلا، أو آلام رقبة مستديمة.
نيمان (مايلز تيلر) شاب غير اجتماعي في الـ 19 من عمره، يهوى عزف الدرامز، ويتخد أول خطواته الاحترافية في المجال، بالانضمام إلى مدرسة موسيقية شهيرة، ليجد في انتظاره ترانس فليتشر (جي كيه سيمونز). مُعلم الموسيقى المرعب السليط اللسان المستحيل الإرضاء، الذي لا يتوقف لحظة عن الضغط عن كل العازفين، ولا يتقبل أي أعذار من أي نوع.
فليتشر يعامل العازفين كجنرال جيش سادي مع جنوده. سباب وإهانات واحتقار وضغوط نفسية يومية. كلمة "أحسنت" لا وجود لها في قاموسه، لأنه يريد ما هو أكثر من كل الموجودين. الكل بلا استثناء في معركة شرسة متواصلة مع نفسه أولا، ومع منافسيه العازفين ثانيا، لإثبات جدارته بالتواجد والبقاء ضمن فرقة فليتشر.
تدريبات الجاز الموسيقية، وظفها المؤلف والمخرج الشاب دميان شازيل بإبداع، وبمونتاج وإيقاع لاهث ومُرهق وحاد، لتبدو أقرب ما يكون سينمائيا إلى مشاهد مباريات الراكبي وغيرها من الرياضات العنيفة التي تقدمها هوليوود. فليتشر يهاجم العازفين بعنف وسادية لتسجيل أهداف في مرمى كل عازف، بينما يجاهد الكل لسد ركلاته فقط!.. في مباراة مستمرة يخرج فيها العازف الخاسر بكارت أحمر من الملعب، ليترك الباقي يكافح لإرضاء فليتشر، والهروب من نفس المصير.
التشابه البصري مع أفلام الرياضة، يمتد إلى أقصى درجة في هذه الجزئية. الكاميرا تلتقط باستمرار مشاهد مُقربة لعرق العازفين وأصوات أنفاسهم اللاهثة من الإرهاق، وستتساقط دماء بعضهم أثناء بعض مباريات العزف حرفيا، بينما يسيطر شريط الصوت على الموقف، الذي تحل فيه المقطوعة المعزوفة في التمرين، كبديل للموسيقى التصويرية لتضفي رهبة وحِدة أكثر واقعية على الملعب والصراع. وتماما مثل مباريات الملاكمة، سيدخل فليتشر الملعب أحيانا ليخلع معطفه، ويترك عضلات ذراعيه بارزة خارج زيه الأسود، وفي كل مرة يرفع فيها قبضته غاضبا ليوقف العزف، ستبدو الحركة أشبه بلكمة قوية، ستعايش ألمها كمتفرج مع العازفين في الفرقة.
بطل الفيلم الشاب مايلز تيلر يقدم أداء تمثيلي ممتاز، لكن بكل تأكيد يظل الفيلم مدين بحدته وقوته للعجوز جي كيه سيمونز. الممثل المساعد الموهوب صاحب الصوت الهادر، الذي ظل حبيس الأدوار الثانية سنوات وسنوات. الغالبية تعرفه شكلا غالبا بفضل سلسلة Spider-Man الشهيرة، بالإضافة إلى أدوار أهم في أفلام مثل Juno - Burn After Reading. سيمونز يجد هنا أخيرا في الـ 59 من عمره فرصته الكبرى، ليقدم أحد الشخصيات التي ستستقر في الذاكرة لسنوات وسنوات. انتظروا منه خطبة مميزة على منصة الأوسكار، كأفضل ممثل مساعد 2015.
بعيدا عن التسلية والتشويق، وفي الفيلم الكثير من كلاهما، فسيتركك شازيل على الأغلب مع بعض الأسئلة القاسية عن حجم التضحيات الشخصية، وعدد السياط التي يجب أن تسلخ به نفسك، لتنتزع مكانة ما مميزة، في سيناريو ذكي لا يجيب عن هذه الأسئلة، بقدر ما يبلورها لتخرج من ملعب الفيلم الضيق، وتصبح أسئلة عن الحياة عامة.
Whiplash فيلم بسيط التكلفة تحول الى أحد أكبر مفاجآت العام، ومرشح لأوسكار كأفضل (فيلم - سيناريو مقتبس - ممثل مساعد - مونتاج - مزج صوتي)، والقصة الحقيقية خلف صناعته لا تقل إثارة، وتصلح كفيلم درامي آخر مطابق إلى حد كبير، عن الكفاح والتحدي والمنافسة.
شازيل البالغ من العمر الآن 30 عاما فقط، كتب الفيلم منذ سنوات متأثرا بتجارب وشخصيات حقيقية عايشها في شبابه كعازف، وعندما لم يجد من يمول الفيلم، غير السيناريو، وقرر صياغة الفكرة أولا، في فيلم قصير بنفس الاسم تم عرضه عام 2013 مع جي كيه سيمونز في نفس الدور. وعندما نجحت هذه النسخة القصيرة في مهرجان صاندانس السينمائي، وجد أخيرا من يمنحه التمويل اللازم ليصنع الفيلم الروائي الطويل الذي أراده من البداية!
ربما تصلح هذه القصة الحقيقية لفيلم آخر عظيم عن لاعب (مخرج سينما) حاول الانضمام إلى فرقة (هوليوود)، ولم ييأس أو يتوقف قط عن المحاولة والمنافسة والمزاحمة، رغم اعتراض ورفض الكبار في اللعبة (المُنتجين)!.. ربما أصبح رفضهم نفسه للفيلم، وقوده الشخصي للتفوق أكثر وأكثر فيه.
باختصار:
سيناريو حاد ومُرهق وساخر وعنيف ومُشوق، أشبه بضربات درامز عنيفة متواصلة، تم تتويجه بأداء ثنائي ممتاز واخراج متقن، في أحد أفضل أفلام العام. انتظروا خطبة مميزة من "جي كيه سيمونز" على منصة الأوسكار، كأفضل ممثل مساعد. اذا لم يحدث هذا؟!.. انتظروا إذًا وقتها قبضته في وجة الفائز الآخر!