التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 10:55 م , بتوقيت القاهرة

وليس التحضر بالمظاهر فعلا

كتبت الزميلة سعاد سليمان مقالاً بعنوان (جورج برنارد دانتزق) عن عالم الرياضيات المعروف، وفي ختامه سجلت دهشتها من كون شخص من مواليد أول القرن الماضي عالم رياضيات وأبوه كذلك وربما جده، وقالت إنه بالمقارنة مع المجتمع السعودي أو بعض مجتمعات الخليج، فإن (الكثير من آبائنا وأمهاتنا أُميين وأجدادنا إلى وقتٍ قريب كانوا يعيشون في بيوت طين أو خيام وفقر مدقع يكافحون ليجدوا ما يأكلونه في صحراء قاسية جافة ووعرة).


وانتهت إلى أن ظهور البترول وبناء البيوت الأسمنتية وإن كان غير شكل المجتمع الظاهري، لكنه لم يغير كثيرا في العقول لأن الأجيال الأقدم لا تزال على أميتها، وأنه بالتالي فهناك حاجة لوقت لتتحول هذه المجتمعات من التحضر السطحي إلى التحضر بمعناه العميق، وطلبت في النهاية أن يكتب كاتب مصري ليقارن بين الوضع في مصر وفي الخليج لأنها تراه سيكون مختلفا.


نعم المجتمع المصري ليس كمجتمعات الخليج، ولكنّه أيضا ليس أفضل حالاً بكثير لأسباب مختلفة، في البداية فالقضية في رأيي كما أنها ليست مشكلة فقر، فهي أيضاً ليست مشكلة تعليم وأمية بل مشكلة ثقافة بشكل عام.


المجتمع المصري بالتأكيد تعرف على الحضارة الحديثة قبل بقية مجتمعات المنطقة عند وصول الحملة الفرنسية إلى مصر قبل أكثر من قرنين، وأحدث هذا هزة عنيفة في المجتمع الذي كان يتصور أن أكثر الناس علما هم مشايخ الأزهر وأقوى ما يتصورونه عن الدول والجيوش هو الجيش الانكشاري العثماني أو جيش المماليك، وبالتالي هيأت الظروف السياسية التالية الوضع المناسب لمصر بوصول شخص يرغب في التحديث للحكم وهو محمد علي باشا.


واستوعب المصريون الحداثة بسرعة كبيرة نسبياً بالمقارنة ببقية شعوب المنطقة، ولكن هذا في الحقيقة له أسباب غير متعلقة بالأمية في حد ذاتها، فالمجتمع المصري كان في ذلك الوقت ثم بعد  إقرارالتعليم المجاني الإلزامي قبل عقود، بل ولا يزال حتى الآن يحتفظ بنسبة أمية مرتفعة رغم تناقصها.


وأول هذه العوامل هي اختلاف  الطبيعة الجغرافية، فكما هو معروف أن المناطق الصحراوية  تخلق ثقافة مغايرة لثقافة النهر والوادي، ففي الأولى تقوم الثقافة على التنقل وعدم الارتباط بالمكان بشكل دائم، لهذا تكون الروابط القبلية أقوى بكثير من غيرها، بينما تقوم الثقافة في الثانية على الاستيطان والزراعة فتخلق ارتباطاً بالمكان من جهة وبمجتمع علاقاته تقوم على المصالح الاقتصادية بأكثر من روابط الدم.


كما أن غياب المناطق الجبلية هو عامل ثقافي آخر، ففي الدول ذات الطبيعة الجبلية في الشام والعراق يصبح من السهل لأي مجموعة فكرية أو سياسية ترفض غيرها أو ينبذها الآخرون أن تلجأ لمكان جبلي وتتحصن به وتنعزل عن غيرها، بينما كانت طبيعة الأرض السهلية المفتوحة في مصر عاملاً يجبر المصريين على قبول درجة من التعايش من بعضهم رغم الاختلاف.


أما العامل الثاني فهو طبيعة المصريين عموما التي اكتسبوها من هذا الموقع أولاً، ثم من إثر تجربتهم التاريخية منذ عصر الفراعنة، بحكم خوفهم من الموت دفعهم  فقد تبنوا في وقت مبكر فكرة البعث والحساب، واعتقدوا أن الميت يستمتع بعد موته لهذا دفنوا معه أغراضه، وبالتالي فاحترام المصريين الشديد للموت كان يقابله ميل للتمتع بالحياة لم تستطع الثقافات الدينية أن تغيره، ويمكن أن تلمس ذلك في ميل الفلاح العادي في أرضه لترديد الأغاني  مثلا أو حتى في مقارنة زي المراة المتزمت في القاهرة في القرن التاسع عشر الذي يميزه اليشمك التركي القريب من النقاب بزي الفلاحة المصرية البسيط واختلاطها العادي بالرجال في الحقول ومواسم جني المحصول في نفس الفترة.


أما العامل الثالث الذي نتج عن العاملين السابقين فهو تعدد الروافد الفكرية في المجتمع، فالمسيحيون واليهود -حتى منتصف القرن العشرين - كانوا دائما جزءا أساسيا من المجتمع بالإضافة للتنوع المذهبي واختلاط الفكر الصوفي بالمذاهب السنية.


والعامل الرابع هو انخراط مصر في الحركة التجارية العالمية مبكرا كدولة زراعية  مع بداية عصر محمد علي، والذي ازداد بشدة بعد افتتاح قناة السويس، وهذا بالطبع كان يعرّض المصريين للتعامل المستمر مع الأجانب، وبالتالي كان هذا عاملا مساعدا على خلق ثقافة كوزموبوليتانية  لدى النخب الجديدة التي تكوّنت إما نتيجة ارتفاع مستوى التعليم أو ارتفاع الثروة نتيجة المعاملات التجارية أو نتيجة الاحتكاك الثقافي بالأجانب عموما.


الخلاصة أن المصريين بحكم التعامل في وسط هذه البيئة، كانوا  بالفعل أكثر انفتاحاً من جيرانهم ربما لا يسبقهم في ذلك  إلا الشوام وبالأخص اللبنانيين لأسباب أخرى، ولكن لم يكن السبب في ذلك هو أن الغالبية في مصر متعلمة بل بحكم هذه العوامل المختلفة، بل أن هذا الشكل الحضاري للمجتمع كان مضطربا وغير مستقر لأنه بالفعل لم يستوعب الأساس الفكري والمعرفي والفلسفي للحضارة والتحديث مكتفيا بأساس عاطفي ووجداني، لهذا  لم ينجح المصريون بشكل جيد في  هذا التغيير بدليل  أنهم في العقود الأربعة الأخيرة تحولوا لدرجة أعلى من التطرف وعدم التسامح بتأثير شيوع خطاب عاطفي يؤثر في وجدانهم، مستنداً لأسباب دينية هذه المرة وليست دنيوية.


نعم إن التحضر ليس بالمظاهر العمرانية أو مساكن الأسمنت، ولكنه ليس بالتعليم أيضا فالتعليم (بالذات في بلادنا التي يقوم فيها علي التلقين) قد يفتح لك باب التعرف على وسائل التحضر ولكنه ليس كافيا وحده لجعلك متحضراً.


التحضر له مظاهر ثقافية وفكرية عديدة ولكن المجتمع الأكثر تحضرا هو في العادة المجتمع الذي استوعب الأساسات الفكرية والفلسفية والأنماط المعرفية التي أقامت الحضارة الحديثة، إذا  لم تنجح مجتمعاتنا في استيعابها ومواجهة مشاكلها  فسنظل نردد مع نزار قباني ( لقد لبسنا قشرة الحضارة .. والروح جاهلية).