التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 02:59 م , بتوقيت القاهرة

الطريق إلى عاصفة الحزم: 1- إيران

الثورة الإسلامية في إيران سميت "ثورة شرائط الكاسيت". لقد كانت مثالا على استخدام أدوات العصر بالنسبة إلى ذلك الجيل لكي تتغلب شعوب على حكامها. وعاد آية الله الخوميني من منفاه في فرنسا كرمز ديني روحي، يُحمل على الأعناق، بعد إسقاط رجل أمريكا القوي، أو شرطي أمريكا في المنطقة، الشاه محمد رضا بهلوي.



صدمت الثورة الإيرانية العالم، وألهمت اليساريين والثوريين، في مصر غنى الشيخ إمام من كلمات أحمد فؤاد نجم: إيران يا مصر زينا، كان عندهم ما عندنا.



سميت الوقائع التي حدثت في مصر في 25 يناير 2011 "ثورة الفيسبوك". في عبارة جمعت بين شاعرية كلمة ثورة وعصرية كلمة فيسبوك. لقد تطور العالم من عصر أشرطة الكاسيت إلى العصر الرقمي. بل وحاول الإخوان المسلمون إعادة بعض المشاهد من الثورة الإيرانية، واستخدام نفس التكتيكات. خطب يوسف القرضاوي في ميدان التحرير، أمام "مليونية"، وهي كلمة استخدمت لأول مرة على يد الثورة الإيرانية في وصف المظاهرات.


في الثورة الإيرانية تحالف التيار الديني مع يساريين، حدث شبيه لهذا في مصر. بل واختاروا منهم أول رئيس، فعل إخوان تونس هذا. قبل أن يعلقوهم على المشانق حين انقضى دورهم ــ من يدري ما كان سيحدث لو استقر الأمر للإخوان. هذه هي النقطة التي أريد الوصول إليها من مقارنة ثورة شرائط الكاسيت بثورة الفيسبوك.


عوامل كثيرة جعلت الدين الثوري في إيران ينجح فيما فشل فيه نظيره في مصر، ليس هذا مجالا لإحصائها، إلا عاملا واحدا. طبيعة المذهب الشيعي كمذهب نشأ في ظل معارضة السلطة، وعلى هذا الأساس صيغت علاقته بها وصيغت التشريعات والفتاوى التي تحكم هذه العلاقة. وبسبب طبيعة العلاقة بين المتدينين والمرشد الروحي المرتقي إلى مرتبة لا وجود لها في المذهب السني.


أشير إلى هذا العامل لأنه الأهم في رسم طريق إيران منذ ذلك اليوم حتى الآن. الحنق التاريخي الجارف، المشبع بالمظالم، والندب واللطم، وخليط من الشعور بالذنب وادعاء الحق. خليط ديناميتي يجعل تفجير الوضع القائم هدفا استراتيجيا، بل وشرطا دينيا لـ"عودة" المهدي المنتظر الذي "يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت جورا وظلما".


لقد ظل رجال المعارضة الشيعية - الثورة - في إيران، حتى بعد وصولهم إلى السلطة، معارضة. ليس لديهم تصور آخر لدورهم في الحياة. لكنهم انتقلوا من معارضة الشاه داخليا إلى معارضة النظام العالمي، من الثورة على نظام الشاه إلى الثورة المطلقة. فاحتجزوا موظفي السفارة الأمريكية رهائن. وألهموا أكثر وأكثر اليسار والثورجية حول العالم.



لكن المظلمة التاريخية الأساسية، التي تعلو على كل المظالم، ظلت كما هي، ضد "قتلة الحسين"، "النواصب"، "السنة". أرجو، بل أشدد، على عدم الظن بأنني أثير مشاعر طائفية. أنا آخذ من الكلام الذي يقوله النظام الإيراني وحلفاؤه.


أول السنة في طريقهم كان صدام حسين. حيث المظلمة التاريخية في أكثر صورها قربا مما في أذهانهم. زعيم أقلوي سني يحكم بلدا أغلبيتها شيعية، ليس هذا فحسب، بل تحوي مراقد الأئمة، وحوزة النجف التاريخية. لا بد لكي يعود المهدي المنتظر من نضال شيعي يسترد "الحق" من السنة الغاصبين. ينتقم من "السنة الغاصبين". صراع سنتعجب حين نفتح الكتب ونرى إلى أي قدر حكم تاريخنا. سنتعجب لأن أناسا سيصدقون الدعاية الإيرانية في دولة "الأئمة" بأنهم لا ينطلقون من هذا الدافع. سنتعجب لأن تيارات يسارية ويساريين مشهورين سيروجون له، سيجعلون "علمانيتهم" مقياسا يقيسون عليه شيعية النظام الإيراني وطائفيته، مفتونين بجانبه الثوري، ومتجاهلين جانبه الديني الطائفي.


بل إن تيارات سنية ساعية إلى الحكم، كالإخوان المسلمين، ستسعى جاهدة إلى الترويج له، نكاية في السلطة. ستتقارب مع إيران أفرعهم في غزة - حماس - وفي لبنان ـ الجماعة الإسلامية.


أما أعجب العجب فأحتفظ به لتعاميهم عن أن النظام الإيراني نفسه لم يخف أبدا سعيه إلى "تصدير الثورة". تختلف التأويلات حول أسباب ودوافع الحرب العراقية الإيرانية ذات المليوني قتيل. فلن نتعرض لها. لكن النظام الخوميني أنشأ المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. وأنشأ المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في لبنان، عقب الثورة الإيرانية مباشرة. الأول احتفظ باسمه لأنه استقر في إيران وليس في الأرض التي يسعى إلى إحداث الثورة الإسلامية بها. (أي أنه بقي في حال الثورة). أما الثاني فسرعان ما غير اسمه لكي يتناسب مع طبيعة وضعه. إذ لو ظل "الثورة الإسلامية في لبنان"، لانقضت عليه الطوائف الأخرى وهو لا يزال وليدا. لقد سمى نفسه اسما أكثر تواضعا - يا للسخرية - سمى نفسه "حزب الله" لا أقل من ذلك.


حزب الله شارك في الحرب الأهلية اللبنانية، بل ونافس فيها قوة شيعية الهوية، لكنها ليست دينية الطابع، كحركة أمل. وسرعان ما صار اللاعب الأقوى. وحين انتهت الحرب كان حزب الله الميليشيا الوحيدة التي احتفظت لنفسها - تحت اسم مقاومة إسرائيل - بالسلاح. فعل ذلك بمباركة إقليمية كانت تحتاج بشدة إلى تسوية إقليمية توفق بين القوى الإقليمية الكبرى المتصارعة في لبنان، وبمبرر استمرار احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني. وفي مقابل صعود زعامة سنية متصلة بالمملكة العربية السعودية، وممثلة في شخص رئيس الوزراء الراحل - المغتال - رفيق الحريري. ووجود للجيش السوري. لقد تقاسمت الدول الثلاث الكبرى، إيران وسوريا والسعودية، النفوذ في لبنان. هذا مهم لفهم ما سنتعرض له في مقالات لاحقة، وصولا إلى يومنا هذا.


على غرار حزب الله في لبنان، نشأت حركة الحوثيين، واسمها الرسمي "أنصار الله"، في اليمن. وهم امتداد لحركة اجتماعية لم تكن في السابق مرتبطة بإيران، بل تلقت في الستينيات دعما من السعودية نفسها في مواجهة الجيش المصري. الآن استلهمت فكرة "البعث الشيعي".


بالتحكم في لبنان، ثم استقطاب سوريا، وبالنفوذ المتنامي في العراق، كونت إيران هلالا شيعيا سياسيا، عمامة وغمامة سوداء فوق رأس الخليج. ثم بالامتداد إلى اليمن، وبنفوذها مع حركة حماس، مدت نفوذها إلى مربعات حيوية على رقعة الشطرنج الإقليمية. حيوية لدرجة تهديد السعودية ودول الخليج على أبوابها، والتلويح لمصر بإمكانية التوغل عبر الأنفاق والخلايا التنظيمية (ولنتذكر كيف تحركت تلك الخلايا سريعا مع أحداث 25 يناير لتحرير أعضائها المعتقلين ونقلهم خارج البلاد).


لم يكن حزب الله ليكون حزب الله لولا سوريا. لم يكن العراق ليتحرك في اتجاه النفوذ الإيراني وجفاء مع الخليج لو لم يكن الوضع في سوريا على ما هو عليه. سوريا مفتاح استراتيجي لن ننتقل خطوة دون الحديث عنه. غدا.