التمثيل هو كل شيء في The Theory of Everything
"ستيفن هوكينج" عالِم الفيزياء والفلك البريطاني الشهير، ليس فقط من صفوة العقليات في التاريخ الحديث، لكن من صفوة العقليات في تاريخ البشرية عامة. الشخصيات الاستثنائية جدا التي ساهمت في فهم أعمق وأفضل لحقيقة الكون. إسهاماته ومعادلاته بخصوص ميكانيكا الكم والثقوب السوداء بالأخص، قلبت الموازين كلها رأسا على عقب.
ندين له أيضا ولكتابه الشهير (موجز تاريخ الزمن) بالأخص بفضل كبير، في انتشار منهج "تبسيط العلوم" أو الـ Popular science وهي كتب أو مقالات أو فيديوهات وثائقية، يتم إعدادها بلغة مُبسطة كتفسير للمواد العلمية الأكاديمية، بغرض تقديم أفكارها ونتائجها لغير المتخصصين.
لكن محور فيلم The Theory of Everything المقتبس من كتاب "Travelling to Infinity: My Life with Stephen" أو "السفر إلى اللانهاية: حياتي مع ستيفن"، لا يتعلق بتفاصيل إنجازاته العلمية، بقدر ما يتعلق برحلة مرضه وزواجه وحياته الشخصية، التي شاركته فيها زوجته "جين" مؤلفة الكتاب.
إعلان الفيلم
جيمس مارش صاحب التاريخ المميز في الأفلام التسجيلية، صنع بداية فيلمه الروائي الأول بصريا لتبدو كقصة حب من حواديت الأميرات. البطل الجامعي الشاب الطموح المختلف عن الآخرين يلتقي الأميرة الفاتنة في حفلة مُبهرة أوائل الستينيات، وسرعان ما تبدأ علاقة انجذاب فورية، رغم اختلافاتهما. تخصصه الدراسي العلمي هو الفلك وتخصصها الأدبي هو الشعر. مُلحد وهي مسيحية مخلصة. كل شيء لا يوحي نظريًا بمساحة مشتركة، لكن الحب لا يخضع لنظريات.
غزل.. رقص.. قبلات.. نزهات في أماكن خلابة.. كل شىء مثالي، وبصورة ناعمة جدا بشكل مزعج نسبيًا، يجعلها أقرب أحيانا في بعض المشاهد إلى مشاهد الفيديو كليب، كما لو كان حلما. موسيقى جوان جونسون الساحرة التي أراها ثالث أجمل عناصر الفيلم، تُكرس الإحساس أكثر وأكثر.
مرحلة الحلم والجو الرومانسي والمستقبل الواعد، تنتهي بطعنة سريعة، ليبدأ الكابوس عندما يصاب هوكينج بمرض عصبي نادر وهو 21 عامًا فقط. عضلات ووظائف جسمه تواصل الانهيار، وأمامه طبقا للتوقعات الطبية عامين فقط من الحياة. تقرر جين هنا أن عامين كافيين لتتويج حبهما بزواج. وتمنح هوكينج رعايتها واهتمامها ليواصل حياته، ويحقق إنجازاته التي نعرفها اليوم.
من السهل مع قصة من هذا النوع، أن يسقط الحوار في فخ جمل وأكليشيهات مكررة عن (الإرادة والعزيمة.. الخ). من السهل أن يسقط أيضا الممثلون في فخ تصنع الصمود والإرادة مع بعض المشاهد، لتفقد الشخصيات على الشاشة مصداقيتها كبشر. ما يجعل مضمون الفيلم جيدا حقا أنه لا يحتفل بانتصار ساحق للثنائي على ظروفهما الصعبة في النهاية، بقدر ما يتوج رحلة الكفاح والنضال نفسها، وينقل معاناتها للمتفرج.
التعاطف مع "هوكينج" مضمون بالطبع، نظرا لطبيعة مرضه نفسها، ودرجة التقدير والاحترام الكامنة في عقلية المتفرج للشخصية نفسها قبل مشاهدة الفيلم، وهو ما يتضاعف هنا بفضل الأداء الحساس المُذهل لنجم الفيلم إيدي ريدمن. الممثل الذي يفقد بشكل تنازلي طوال الأحداث أدوات التعبير التمثيلية، بسبب حرمان الشخصية من لغة الجسد وأغلب تعبيرات الوجه، أو حتى قابلية الكلام، ينجح باقتدار في تحقيق العكس. وينتزع تفاعل المتفرج بشكل تصاعدي، كلما انخفض معدل المسموح بتوظيفه.
تحتاج إلى درجة تركيز رهيبة كممثل لتحافظ على عضلات الوجه والفك في مزيج مرتعش ومتجمد، يناسب ويتواءم مع ما نحفظه كعشاق ومتابعين لهوكينج، لتقول كل شيء يحتاجه كل مشهد درامي بحركات بسيطة للجفن والعينين. اللمسات الساحرة التي عشقناها في هوكينج بخفة ظله وسرعة بديهته، وكلماته الصادرة من جهاز كمبيوتر ثابت النبرات، ستلمسها في أداء ريدمن. تألقه في الشخصية يسبق أيضا مرحلة المرض نفسها، وفي بداية الفيلم ينجح ببراعة أيضا في مرحلة الشاب الشغوف بدراسته. أداؤه الاستثنائي أجمل ما في الفيلم غير الاستثنائي للأسف.
في النهاية هوكينج ضحية مرض لم يخترْه ولا يملك تجنبه، وهو ما يجعل شريكته أكثر شجاعة ربما. الأنثى التي اختارت أن تكون جزءا من هذه الحياة، وحملت المسؤوليات الأكبر باعتبارها الطرف القادر صحيًا. الطرف المطالب باستمرار بالتنازل عن جزء من حياته، لتستمر حياة الطرف الآخر. أداء فيلسيتي جونز لا يقل جودة وحساسية عن أداء ريدمن. وبينما يواصل المرض الزحف على جسم هوكينج لينتزع منه عضلة وراء الأخرى، تتوغل القصة لنعرف أيضا كيف انتزع ذلك بالتدريج جزءا من حياة وروح وعزيمة جين.
هذه قصة من العالم الحقيقي عن بشر حقيقيين في معاناة حقيقية، في فيلم رومانسي رغم ذلك بالدرجة الأولى. لا وجود هنا لـ Happily Ever After أو "عاشوا في تبات ونبات للأبد". الحياة الحقيقية لا يوجد فيها هذا الهراء!.. توجد فقط لحظات صمود وتحدٍ واستسلام وتفاهم. في عالم مثالي، سيكون هذا هو الفيلم الأنسب على الإطلاق لموعد غرامي في علاقة ناضجة واعدة!
رغم هذا، تظل شخصية هوكينج الاستثنائية جديرة بفيلم استثنائي شكلا ومضمونًا، وهو ما لا يوجد في الفيلم. وما يدعو للأسف أكثر وأكثر، أن الفيلم حقق بالفعل أصعب خطوة على الإطلاق في المهمة، بعد فوزه بأداء ريدمن. وتماما مثلما ظل هوكينج بعقله الخارق سجين جسد مشلول لسنوات وسنوات، ظل ريدمن سجين فيلم لا يناسب أداءه المتميز.
عنصر الإشباع لم يتحقق نهائيا، وربما يعود السبب بشكل ما إلى درجة توقير تقترب إلى التقديس من ناحيتي بخصوص هوكينج، وسقف توقعات مرتفع بخصوص الفيلم من البداية، ازداد ارتفاعا مؤخرا بعد حصوله على 5 ترشيحات أوسكار كأفضل (فيلم - سيناريو مقتبس - موسيقى تصويرية - ممثل - ممثلة).
اسم الفيلم نظرية كل شيء مقتبس من نظرية للبحث عن معادلة واحدة كاملة تفسر كل ظواهر الكون، وهو ما لم يصل إليه هوكينج ورفاقه حتى الآن. الفيلم أيضا لم يصل في النهاية للمعادلة السينمائية المثالية التي انتظرتها بخصوص هوكينج، لكن يمكن القول إنه قدم ما يكفي بخصوص المثلث الغريب الذي حمله هوكينج على أكتافه لسنوات، وجعل حياته غير عادية. شغفه بالعلم.. مرضه.. زواجه.
باختصار:
المعادلة المتوفرة هي (أداء استثنائي لـ ريدمن وفيلسيتي، في فيلم عادي غير استثنائي، عن حياة إحدى الشخصيات الاستثنائية جدا في تاريخ البشرية). معادلة غير مثالية لكنها بكل تأكيد تكفي لمشاهدة الفيلم.