الإيكونوميست - رسالة الديجيتال لأصحاب رؤوس الأموال
للمرة الثانية فقط خلال تاريخها الطويل، 172 سنة، تجري تغييرات في "الإيكونوميست" على مستوى الملاك. فاينانشال تايمز التي امتلكت 50% من الأسهم منذ تسعين عاما ستبيع هذه الأسهم، 60% من تلك الأسهم ستشتريها مجموعة Exor الإيطالية (المالكة لحوالي 64% من نادي يوفنتوس الإيطالي وحوالي 29% من شركة فيات) لتزيد أسهمها الحالية داخل "مجموعة الإيكونوميست".
ليس غرض المقال الحديث عن توزيع الأسهم الجديد في الإيكونوميست. إنما غرضه الإشارة إلى السبب الذي جعلها تفعل ذلك لأول مرة منذ 90 عاما، وهنا أقتبس ما قالته الإيكونوميست نفسها:
"خلفية هذا التغيير في الملكية تكمن في التحور الرقمي لعالم صناعة الصحافة. التكنولوجيا المحمولة وصعود وسائل التواصل الاجتماعي يقدمان فرصا غير مسبوقة للوصول إلى جماهير جديدة بوسائل جديدة. لكنهما يخلخلان النماذج التقليدية للصناعة..".
الإعلام صناعة، مثله مثل أي صناعة. يتطور ويتغير. أي صناعة لا تتطور مع الجديد تخسر. ولذلك يحرص أصحاب الأموال على تطوير صناعاتهم، وعلى الاستفادة بذوي الخبرة (أيوه اللي بياخدوا فلوس كتير علشان يجيبوا فلوس أكتر) في ذلك التطوير.
لكن الحال في مصر مختلف. سواء في القطاع العام، الذي تنفق فيه الدولة من جيوب المواطنين على صحافة وإعلام خاسر، ولا تجد من يحاسبها. أو في القطاع الخاص. الذي يدار أيضا بعقلية القطاع العام ولكن مع "تويست" صغير. تمويل بمواصفات الـ"هبة" تضعه جهة في مشروع، ثم تأتي بأناس يكررون السابق، ولا يصنعون المستقبل. يكررون "نجاحا" قديما، تغير العالم وتركه خلف ظهره.
التكرار يعني عدم التطور. لكن هذا ليس مرده فقط القائمين على المشروع من الإعلاميين. بل مرده إلى الإدارات التي تتولاه. الإدارة غير الهادفة للربح إدارة كسولة، ليس لدى أفرادها الدافع لكي يحسنوا عملهم، ولكي يبحثوا عن فرص جديدة للتطور. والهبة وغياب المحاسبة معناها أن تتحول الوظائف إلى "هدايا" للأقارب والأصحاب. والقرارات الاستراتيجية إلى مجاملات للشلل الاجتماعية.
ما الذي يجعلها الإدارات الإعلامية تتصرف هكذا؟
أنها ليست مسؤولة أمام جمعية عمومية حقيقية. جمعية حقيقية تعبر عن "مساهمين" فعليين، دفعوا أموالهم وسيخسرونها إن خسرت الشركة. ولذلك فإنهم يتابعون - بتراتب إداري قمته تصل إلى مجلس الإدارة - كل راتب، كل جنيه تدفعه الشركة، كل موظف وموظفة تعينهما، والأهم من ذلك حركة السوق واتجاهات الرأي العام وعادات الجمهور.
ثم إن هناك البلاء الأكبر لصناعة الإعلام في مصر.
الجمهور الأكبر توقف عن قراءة الصحف، اسألوا أرقام التوزيع تخبركم. لكن، يا للمفارقة، نقابة الصحافة في مصر يسيطر عليها أناس مرتبطون بهذه الصناعة الورقية البالية. ونقابة الصحافة في مصر تدفع بدلات شهرية لصحفيين، تختلف صفاتهم ومهاراتهم، لكن المهارة الوحيدة الواجب توافرها في الجميع هي العمل في "الصحافة الورقية".
هل هذا معقول؟!
الأمر صار أشبه بنقابة لفلاحي الفاس والطورية التي تتحكم في منح تراخيص العاملين في تكنولوجيا الزراعة. نكتة. والله نكتة.
لكن النكتة تقف وراءها منظومة سياسية تتحدث عن التحديث لكنها لا تعرف مفرداته. تظن أن التحديث تحديث آلات، وليس تحديث "نظم". منظومة سياسية تتحدث عن حرية الإعلام، لكنها في الحقيقة تريد أن تسيطر على هذا الإعلام سيطرة فعلية، لا قانونية. فتستخدم شروط الانتساب إلى نقابة الصحافة وسيلة لهذه السيطرة. تعمدت هنا أن أقول منظومة سياسية، وليس سلطة، لأن المنظومة السياسية قد تضم أناسا يبدو أنهم "متعارضون" إنما في الحقيقة أدمغتهم نفس الأدمغة، وخلافهم على من يحوز "الكعكة".
وبالتالي فالمستفيدون من الجهة التي تبدو معارضة تقف أيضا وراء النكتة. صحفيو الفاس والطورية يريدون الحفاظ على "سلطتهم".
لا تحسن في مجال الإعلام إلا بنفس شروط التحسن في المجالات الأخرى، انضباط إداري وقدرة على التطور، لا يترك للأمزجة والأهواء، بل تحكمه القدرة على الاستمرار، وهي هامة جدا لبناء النجاح. الإيكونوميست وفاينانشال تايمز والتايمز وتايم وواشنطن بوست، كل هذه مؤسسات بنت جودتها عبر السنين. أعطني تجربة واحدة مستقلة في مصر استمرت عقودا. لا يوجد بعد ثورة يوليو، حتى بعد أن أتيحت ملكية الصحف الخاصة. لماذا؟ لغياب الفكر الاستثماري المرتبط بالربح والخسارة.
إننا يا سادة لا نزال حتى الآن نخلط بين "النشر الإلكتروني" للصحف، وبين "الديجيتال ميديا". هذان نوعان مختلفان. مع كل احترامي للزملاء في الصحف المنشورة على الإنترنت، هذا نشر إلكتروني. الديجيتال ميديا مفهوم آخر تماما. كما التليفزيون والراديو مفهومان مختلفان عن الصحافة الورقية.
هذا مجال يجب أن يدخل فيه رجال وسيدات الأعمال المصريون، بفكر استثماري هادف للربح، وإدارات استثمارية هادفة للربح. هذا مجال قادر على الربح، بإمكاناته الإعلانية والتسويقية، وجاذبيته المتعدية للشرائح والفئات. لا تضيعوا الفرصة. ولا تنتظروا حتى نجد أنفسنا مرة أخرى ننافس على درجة السلم التي تركها العالم بالفعل.