الشيخ إمام.. الكفيف الذي رأى العالم بصوته
"الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلا رجعه ظباطنا من خط النار يا أهل مصر المحمية بالحرامية،الفول كتير والطعمية والبر عمار"، كلمات تغنى بها الشيخ إمام عقب هزيمة 67، لتكون سببًا مباشرًا في سجنه وهو ومؤلفها الفاجومي، حتى وفاة جمال عبد الناصر وأنور السادات.
واختار القدر أن يكون شهر الهزيمة، هو نفس الشهر الذي كان سببًا في شهرته، وهو الشاهد كذلك على رحيله منذ ما يقارب 22 عامًا، ليترك عدة أغاني حماسية ترددت بقوة في ميدان التحرير إبان ثورة 25 يناير.
محطات في حياة الشيخ إمام
اسمه الحقيقي إمام محمد أحمد عيسى، وُلد في قرية أبو النمرس التابعة لمحافظة الجيزة في 2 يوليو عام 1918لأسرة فقيرة، أصيب برمد وهو في عامه الأول، وبسبب الجهل والوصفات البلدية التي استخدمت لعلاج عينه فقد بصره وهو طفل.
كان يحلم والده بأن يكون شيخًا كبيرًا فأرسله إلى الشيخ عبد القادر ندا رئيس الجمعية الشرعية وقتها بابو النمرس، ليحفظ القرآن وتميز بأنه يملك ذاكرة قوية.
طفولته كانت صعبة فوالده كان قاسيا للغاية، وكان دائم البكاء من معايرة الأطفال له عن فقدانه لبصره، فآثر الابتعاد عنهم، وكان يندس وسط النساء ليسمع أغاني الأفراح والمواسم المختلفة.
فصله من الجمعية
قررت الجمعية الشريعة التي كان يدرس بها الشيخ إمام أن الاستماع للإذاعة من الممنوعات لأنها في نظر الجمعية من البدع، حتي لو كان الاستماع للقرآن الكريم، ولكن إمام كان يعشق صوت الشيخ محمد رفعت ووصل الأمر إلى الجمعية التي قررت فصله منها بالإجماع.
خاف "إمام" من والده بعد فصله فهرب إلى القاهرة ليعيش حياة صعبة للغاية حيث كان يقضي نهاره في الحسين وينام في الازهر ليلا، بحث عنه والده لا ليعيده مرة اخري الي القرية لكن ليحذره من العودة اليها بعد اقترافه الجرم الأعظم وهو فصله من الجمعية، توفيت والدته عقب تلك الحادثة مباشرة ولم يتمكن من تشيع جنازتها أو عودته لقريته مرة اخري الا بعد وفاة والده.
بداية الانشاد وتعرفه على زكريا أحمد
في ظل تخبطه في حياته الجديدة قابل مجموعة من أهالي قريته ممن يقطنون بحي الغورية، فأقام معهم وبدأ في امتهان الانشاد وتلاوة القران الكريم الذي كان يحفظه، بالصدفة سمعه الشيخ درويش الحريري وكان احد كبار معلمي الموسيقي وقتها، فاعجب بصوته فقرر تعليمه الموسيقي.
اصطحبه الشيخ الحريري في جلسات الانشاد والطرب، فتعرف على كبار المطربين والمقرئين، أمثال زكريا أحمد والشيخ محمود صبح، وتحسنت احواله وفي منتصف الثلاثينات تعرف الشيخ امام علي الشيخ زكريا احمد، واستعان به لحفظ الالحان الجديدة لأن زكريا احمد كان ملولا لا يحب الحفظ، فاستمر معه الشيخ امام وقتا طويلا.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تسبب حفظ الشيخ امام للألحان ام كلثوم الجديدة أن تتسرب للناس من خلاله فقرر الشيخ زكريا الاستغناء عن امام.
بداية التلحين والتأليف
بعد تركه للشيخ زكريا احمد قرر تعلم العزف علي العود، وتعلم علي يد كامل الحمصاني، وبدأ يتجه للتلحين، والف أغاني ولحنها وغناها وترك الملابس الازهرية والانشاد وقراءة القرآن الكريم.
اللقاء بين إمام ونجم
ظل امام علي هذه الحالة حتي التقى عام 62 بأحمد فؤاد نجم، مصادفة عن طريق جار للشيخ امام وفي الوقت نفسه قريبا لنجم، وسرعان ما نشأت بينهم صداقة استمرت حتي رحيل الشيخ امام.
ذاع صيت الثنائي نجم وإمام والتف حولهما المثقفون والصحفيون خاصة بعد أغنية: "أنا أتوب عن حبك أنا؟"، ثم "عشق الصبايا"، و"ساعة العصاري"، واتسعت الشركة فضمت عازف الإيقاع محمد على، فكان ثالث ثلاثة كونوا فرقة للتأليف والتلحين والغناء ساهم فيها العديد من الشعراء، حيث لم تقتصر على أشعار نجم فقط، فغنت لمجموعة من شعراء عصرها أمثال: فؤاد قاعود، و سيد حجاب ونجيب سرور، وتوفيق زياد، ونجيب شهاب الدين، وزين العابدين فؤاد، وآدم فتحى، وفرغلى العربي، وغيرهم
هزيمة يونيو والشهرة
بعد الهزيمة التي زلزلت المصريين عام 1967، سادت نغمة السخرية والانهزامية في اغانيه، مثل "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا - يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار"، و"يعيش أهل بلدى وبينهم مفيش - تعارف يخلى التحالف يعيش"، و"وقعت م الجوع ومن الراحة - البقرة السمرا النطاحة"، وسرعان ما اختفت هذه النغمة الساخرة الانهزامية وحلت مكانها نغمة أخرى مليئة بالصحوة والاعتزاز بمصر مثل "مصر يا امة يا بهية - يا ام طرحة وجلابية"
كانت الهزيمة شرارة الشهرة لثنائي إمام ونجم، وانتشرت قصائدهم كالنار في الهشيم داخل مصر وخارجها، في البداية استوعبت الدولة الشيخ وفرقته وسمحت بتنظيم حفل في نقابة الصحفيين وفتحت لهم أبواب الإذاعة والتليفزيون.
السجن بسبب الغناء
سرعان ما انقلب الحال بعد هجوم الشيخ إمام في أغانيه على الأحكام التي برأت المسئولين عن هزيمة 1967، فتم القبض عليه هو ونجم ليحاكما بتهمة تعاطي الحشيش سنة 1969 ولكن القاضي أطلق سراحهما، لكن الأمن ظل يلاحقهما ويسجل أغانيهم حتى حكم عليهما بالسجن المؤبد ليكون الشيخ أول سجين بسبب الغناء في تاريخ الثقافة العربية.
ويقول صلاح عيسي في كتابه شخصيات لها العجب، بعد عام من اعتقال أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، في 1968، انتهز الزعيم الفلسطيني نايف حواتمة، رئيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لقاء بينه وبين الرئيس عبد الناصر، وقال إن لديه طلباً يتمنى أن يكرمه الرئيس فيحققه له. وابتسم عبد الناصر قائلا: أمرك يا نايف فتشجع نايف حواتمة وقال إنه وجود ثلاثة معتقلين بالسجون المصرية، هم: الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وكاتب هذا السطور، وأنه يتمنى أن يستجيب الرئيس لوساطته فيفرج عنهم،
وتجهم وجه الرئيس عبد الناصر، وقال بجفاء: ما تتعبش نفسك التلاتة دول مش هايطلعوا م المعتقل طول ما أنا عايش" وذلك ما كان.
قضى الشيخ إمام ونجم الفترة من هزيمة يونيه حتى نصر أكتوبر يتنقلون من سجن إلى آخر ومن معتقل إلى آخر وكان يغني وهو ذاهب إلى المعتقلات اغنيته المشهورة شيد قصورك ومن قضية إلى أخرى، حتى أفرج عنهم بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.
النهايات
في منتصف الثمانينيات تلقى الشيخ إمام دعوة من وزارة الثقافة الفرنسية لإحياء بعض الحفلات في فرنسا، فلاقت حفلاته إقبالاً جماهيرياً كبيراً، وبدأ في السفر في جولة بالدول العربية والأوروبية لإقامة حفلات غنائية لاقت كلها نجاحات عظيمة، وللأسف بدأت الخلافات في هذه الفترة تدب بين ثلاثي الفرقة الشيخ إمام ونجم ومحمد على عازف الإيقاع لم تنته إلا قبل وفاة الشيخ إمام بفترة قصيرة.
وفى منتصف التسعينات آثر الشيخ إمام الذي جاوز السبعين العزلة والاعتكاف في حجرته المتواضعة بحي الغورية ليرحل بهدوء في يونيه 1995