التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 04:45 ص , بتوقيت القاهرة

شهادة جمال الغيطاني على تعاقد نجيب مع الشروق..مليون محفوظ

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني

شهادة جمال الغيطاني على تعاقد نجيب مع الشروق..مليون محفوظ

عام 2000، كتب الروائي الكبير الراحل جمال الغيطاني، مقالا بعنوان "مليون محفوظ"، احتفظ لنا أرشيف الإنترنت بهذا المقال لحسن الحظ، ليكون معبرا عن ظروف التعاقد التي جرت بين نجيب محفوظ، وبين دار الشروق آنذاك، وهو التعاقد الذي انطلقت دعوات هذه الأيام، ترغب في هدمه، رغما عن أنف ورثة محفوظ الذين رفضوا هذه الدعوات.

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني

 

يقول جمال الغيطاني في مقاله:جرى ذلك مساء الثلاثاء قبل الماضي،  عدت إلى البيت في الحادية عشر مساء، بعد انتهاء جلستنا الأسبوعية مع أستاذنا نجيب محفوظ، ذلك الموعد الذي لم نخلفه منذ صيف عام سبعة وستين من القرن الماضي.

أعمال نجيب محفوظ
أعمال نجيب محفوظ

 كنت مهموما بما سمعته وأفكر في أطراف عديدة، لي بها صلة وثيقة. من نجيب محفوظ علمنا أنه يمر بحالة من التوتر، إذ جاءه الناشر إبراهيم المعلم منذ يومين وعرض عليه شراء أعماله كلها لنشرها بالطرق الحديثة، بالاسطوانات المدمجة وعبر شبكة الاتصالات الدولية، وطرق أخرى لم أستوعبها جيدا، قال إن إبراهيم المعلم عرض عليه مبلغا ضخما يعد سابقة فى تاريخ النشر والناشرين، مليون جنيه تدفع كاملة، ودفعة واحدة.

 ارتفعت أصواتنا بالاستحسان، ثم انتبهنا إلى ضيق الأستاذ وهمه البادى، استفسرنا عن السبب، قال بعد أن وافق تذكر أنه وقع عقدا عن طريق ناشره التاريخي صلاح السحار الذي صحبه ومعه صديق له يعمل مع مؤسسة فى أبوظبي. أبوظبى؟ من بالضبط يا أستاذ نجيب؟ قال الأستاذ نجيب بعد تفكير قليل: - مشروع فى القرية الالكترونية. - أدركت على الفور ماذا يقصد. لا يا أستاذ نجيب، المشروع نفسه اسمه القرية الالكترونية، ومؤسسه واحد من خيرة المثقفين العرب، الشاعر محمد السويدى. وافقنى جميع الحضور، فكل منهم ملم، عليم، بجهود محمد السويدى فى خدمة الثقافة العربية. بدءا من النشاط الثقافي المتميز الذي يشهده المجمع الثقافي، والذي وضعه بجدارة على خريطة الثقافة العربية. إلى المشروعات الرائدة، مثل وضع الشعر العربي على شبكة الانترنت، وإتاحته للقراء في العالم كله، وقد تجاوز عدد الأبيات المتاحة حتى الآن مليوني بيت من الشعر، إضافة إلى مشروع إنشاء موقع لمؤلفات الأدب العربي القديم يتيح المصادر الأساسية للقراء والمتعاملين مع الشبكة، وبين هذه المصادر مؤلفات يتجاوز عدد صفحاتها العشرين ألفا مثل الأغاني للأصفهاني، وسير أعلام النبلاء، وكتب التراجم والقواميس الضخمة، وكنت أعلم أقدام محمد السويدي في صمت وبدون ضجيج إعلامي على تمويل مشاريع ثقافية مهمة، أحجمت عنها مؤسسات رسمية.

 منها على سبيل المثال طبع المجلدات الثلاثة الضخمة للدكتور ثروت عكاشة عن فنون عصر النهضة، لا يمكن لمثقف مثل محمد السويدي إلا أن يسعى لما فيه خير نجيب محفوظ، ولا بد أن التعاقد تم بعيدا عنه، كان المبلغ الذي أتفق عليه الناشر محدودا جدا بالنسبة لعرض إبراهيم المعلم، إذ يقضى بدفع ستة وسبعين ألف جنيه وخمسمائة جنيه عن مجمل الأعمال، وهذا رقم متواضع بالنسبة لإنتاج أديب في حجم محفوظ، سواء من حيث الكيف أو من حيث الكم.

 

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

 شعرت أن العقد ظلم نجيب محفوظ من ناحية، ومن ناحية أخرى ذكر صديق لنا في الجلسة أن البعض بدأ يحاول إثارة الموضوع إعلاميا، وهنا نشأ عندي سبب آخر للضيق، إذ لو أثير هذا الموضوع إعلاميا، سيجد الصديق الشاعر محمد السويدي نفسه في موقع لم يتخيله، ولم يتصوره، سيضطر هو أو مساعدوه إلى التوضيح والحديث في وطننا العربي عن أمور الحقوق المالية للأدباء وهو أمر محفوف بحساسيات عديدة، فما البال إذا كان هذا الأديب هو نجيب محفوظ؟ في ساعة متأخرة من الليل وبعد تردد، بدأت اتصالاتي لأحصل على رقم هاتف الشاعر محمد السويدي فى لندن حيث يقضى إجازته، أخيرا نجحت في الاتصال بسكرتيره الخاص الأخ بدر في أبوظبي، إنني أكره رنين الهواتف الليلية, سواء عندي أو لدى صحبي وأصدقائي، لا ألجأ إلى ذلك إلا لضرورة قصوى، لحسن الحظ لم يكن بدر قد استغرق في النوم بعد، طلبت منه إبلاغ الصديق محمد السويدي في لندن ضرورة الاتصال بي لأمر مهم، طلب منى بدر أن ألمح له بشيء ما على الأقل. - بخصوص نجيب محفوظ.. لا أدرى كيف تمت الاتصالات بهذه السرعة، في أقل من دقيقة كان جرس الهاتف يرن، وصوت الصديق محمد السويدي يأتيني عبر المسافات القصية، قصصت عليه ماجرى، وذكرت له انطباعي ورأيي، جاءني صوته الهادئ وهو يقول على الفور، أنه أقدم على هذا المشروع من منطلق الحب في نجيب محفوظ، وأن الموقع الذى تم إنشاؤه بالفعل منذ سبعة شهور على شبكة الاتصالات الدولية يقدم الخدمة بالمجان على جميع مستوياتها من أجل نشر أعمال محفوظ على أوسع نطاق.

وأضاف محمد السويدي: - ومن منطلق المحبة لمحفوظ, إذا توافر الآن عرض آخر يحقق فائدة مادية أفضل للكاتب الكبير, فإننى أول من يرحب به، إنني سوف أتنازل فورا عن العقد المبرم لحساب القرية الالكترونية إذا توافر شرط الجدية عند أصحاب العرض الجديد. هل يمكنني أن أنشر تصريحك هذا فى جريدة (أخبار الأدب)؟ - طبعا.. وبكل سرور.. شكرته بحرارة، عندما ذكر اسم محمد السويدي، قال الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، إنه يعرف الرجل مثل نفسه، وانه أقدم على هذا المشروع من منطلق ثقافي نقى، ولن يكون عائقا أمام وضع جديد يحقق مصلحة نجيب محفوظ، أكد على ذلك يوسف القعيد، ورحنا نتنافس في الحديث عن محمد السويدي، كما عرفه كل منا. وهاهو يؤكد بموقفه الجديد نزاهة قصده فى الماضي والمستقبل. 

الناشر إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق
الناشر إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق

في اليوم التالي، في ساعة مبكرة، اتصلت بالمهندس إبراهيم المعلم مدير دار الشروق، قلت له إننى سأمر به في الواحدة ظهرا بمكتبه، حاول أن يستفسر منى، لماذا و ما سبب هذه العجلة، مع أننا نحاول أن ندبر لقاء يجمعنا منذ عدة شهور، لكن مشاغل كل منا جعلت علاقتنا عبر الهاتف، مثل علاقات أخرى حميمة، فالحركة الآن أقل، وعملي الصحفي يستغرق وقتا ليس بالهين. هل أنت جاد في مسألة العقد الخاص بنجيب محفوظ؟ قال لي إبراهيم المعلم وهو يتطلع إلي عبر مكتبه - طبعا.. لكن.. * رفعت يدي مؤكدا - إذا كنت تقصد العقد الذي سعى فيه البعض مع القرية الالكترونية فلن يمثل هذا عقبة. * أبدى دهشة - كيف؟ * رويت له ماجرى مع الصديق محمد السويدى, وقلت له أن الجميع الآن متفقون على مصلحة نجيب محفوظ: المهم، جدية العقد الجديد. ضغط إبراهيم المعلم مفتاح الجرس، جاءت مديرة مكتبه، قال: - من فضلك المظروف الذى يحتوى على العقد الخاص بالاستاذ نجيب محفوظ

صورة لنجيب محفوظ خلال جلسته في مقهى على بابا ناظرا إلى ميدان التحرير
صورة لنجيب محفوظ خلال جلسته في مقهى على بابا ناظرا إلى ميدان التحرير

ثم أخرج من جيبه دفتر الشيكات، وعلى الآلة الكاتبة، كتب سطورا قليلة، ادفعوا لأمر السيد نجيب محفوظ عبد العزيز مبلغا وقدره مليون جنيه فقط لا غير. كان الشيك مسحوبا على بنك الصادرات بالقاهرة، وهذا أول شيك بمليون جنيه أراه في حياتي، صحيح أن رقم المليون الآن أصبح عاديا, وقبل نصف قرن، قبل ثورة يوليو لم يكن هناك إلا شخص واحد في مصر كلها تقدر قيمة ثروته بمليون جنيه، وهو أحمد عبود باشا، الآن تقدر ثروات البعض فى مصر بالمليارات، ومن السهل أن انطق لفظ المليار، لكن صعب جدا أن أتخيله، وبالنسبة لي المليون أيضا، وإن كان المليون كما ذكرت أصبح مبلغا عاديا جدا في عالم الأعمال بمصر. * قال إبراهيم المعلم: إننى جاهز للذهاب في أي وقت تحدده للأستاذ نجيب بحيث يتم توقيع العقد وتسليمه الشيك بعد فسخ العقد الأول. - اقترح أن يكون ذلك يوم الثلاثاء المقبل، فى موعدنا الأسبوعى. - موافق.. صباح الخميس, اتصلت بالشاعر الرفيق والصديق النبيل محمد السويدي فى لندن أبلغته جدية إبراهيم المعلم واستعداده. في نفس الصباح اتصل بالصديق محمود خضر، المستشار القانونى له، كلفه أن يسافر إلى القاهرة، وأن يتخذ من الإجراءات كل ما يراه مناسبا لتحقيق مصلحة نجيب محفوظ وبدون الرجوع إليه فى أى تفاصيل. الثلاثاء، موعد اللقاء الأسبوعى، أغادر مكتبى عادة فى الخامسة والنصف، وصل الصديق محمود خضر, اتجهنا إلى العوامة (فرح بوت) الراسية في النيل عند الجيزة، كان إبراهيم المعلم قد سبقنا، تم كل شيء في مناخ يفيض بالمحبة لمحفوظ، وبمثالية رائعة، مصدرها ذلك النبل النادر لمحمد السويدى, وجدية وطموح ناشر مخضرم، ضرب مثلا يحتذى لكيفية العلاقة بين المبدعين والناشرين، وهكذا دخل مليون جنيه إلى حساب الأستاذ نجيب مقابل أعماله التي أنجزها في سبعين عاما، وهذا أول مليون جنيه اسمع عنه وأراه، وأثق تماما أن هذه الأموال نتيجة جهد حلال تماما. إنه مليون محفوظ.

روايات نجيب محفوظ
روايات نجيب محفوظ

 

 

عام 2000، كتب الروائي الكبير الراحل جمال الغيطاني، مقالا بعنوان "مليون محفوظ"، احتفظ لنا أرشيف الإنترنت بهذا المقال لحسن الحظ، ليكون معبرا عن ظروف التعاقد التي جرت بين نجيب محفوظ، وبين دار الشروق آنذاك، وهو التعاقد الذي انطلقت دعوات هذه الأيام، ترغب في هدمه، رغما عن أنف ورثة محفوظ الذين رفضوا هذه الدعوات.

يقول جمال الغيطاني في مقاله:جرى ذلك مساء الثلاثاء قبل الماضي،  عدت إلى البيت في الحادية عشر مساء، بعد انتهاء جلستنا الأسبوعية مع أستاذنا نجيب محفوظ، ذلك الموعد الذي لم نخلفه منذ صيف عام سبعة وستين من القرن الماضي.