مارلون براندو.. هوامش على "ثورة" نجم استثنائي
مارلون براندو
معتمد عبد الغني
الأربعاء، 04 يناير 2017 08:34 م
السطور القادمة ليست تناولًا لسيرة ذاتية لنجم سينمائي (عاش ومات تتكفل بها أرقام ويكيبيديا)، بقدر ما هو رصد لمواقف ثورية في الفن والحياة، لرجل استخف بكل شيء طمح إليه الجميع، وكان بمثابة "سبارتاكوس" الذي حرر الممثلين من نمطية الأداء، وهذا ما أكده جاك نيكلسون، في حديثه عن السيد براندو: "لقد منحنا حريتنا".
منذ ظهوره المسرحي الأول مع المخرج إيليا كازان، في "عربة اسمها الرغبة"، عام 1947، وحتى وفاته في 2004، و"مارلون براندو" في حالة ثورة مستمرة، متجاوزًا مرحلته الزمنية شكلًا ومضمونًا، وبفضله تحطم قالبي الجمود والمثالية، على شاشة السينما، لذا "لابد من تقسيم التمثيل إلى ما قبل براندو وما بعده"، مثلما قال المخرج العالمي مارتن سكورسيزي، لأن هذا الفنان الاستثنائي سبقه هنري فوندا، وكاري جرانت، ولحقه مخضرمين مثل جاك نيكلسون، وآل باتشينو، لكنه في المنتصف (مرحلة الخمسينات)، يقف منفردًا، متحررًا ممن سبقوه، وملهمًا لمن جاءوا بعده.
في رواية "بوركيني" للروائية اللبنانية مايا الحاج، أشارت إلى هَوَس بطلة الرواية بشخصية مارلون براندو، في مرحلة المراهقة، رغم أن مثيلاتها من البنات كن متيمات بـ براد بيت، وليوناردو دي كابريو، لكنها فضلت نجم من زمن الأبيض والأسود. وسردت في ثنايا الرواية، مشاهد من واقع براندو، الذي كان أول نجم تمرد على البذلة الكلاسيكية، وارتدى "الفانلة" البيضاء في السينما، ما جعل مظهره لا يليق بكلاسيكية الأبيض والأسود، وتشعر أن الألوان العصرية أكثر تناسقًا مع نجم الخمسينات، الذي كان "معبودًا للنساء في زمانه، لدرجة أن علماء النفس اشتقوا من اسمه المرض السيكولوجي المتعلق بهَوَس المعجبات بالنجوم "براندونيسم"، حسب أحداث الرواية.
في أغسطس 2004، قال الممثل جاك نيكلسون، عن براندو الذي توفي قبل شهرين من تلك الكلمات: "كنتُ في المرحلة الثانوية في الخمسينات عندما دخل براندو اللعبة، وشاهدته يقوم بتغيير القواعد"، وأضاف نيكلسون عن أستاذه وجاره براندو، الذي أوصى أن يكون جاك، في مقدمة جنازته: "كان لابد لي أن أشاهد كل أداء له في فيلم "On the Waterfront" مرتين كل ليلة، لا تستطيع أن تنزل عينيك من عليه. لقد كان فاتنًا".
ندَرَ تواجد براندو أو "بود" كما يطلق عليه أفراد أسرته، في البرامج الحوارية، قائلًا: "لو كان هنالك أمر يزعجني جداً فهو مشاهدة ممثلين يتحدثون في التلفاز عن حياتهم الشخصية".
ملك هوليوود الذي ثار على عرش نجوميته، واتهم بعشوائية اختياراته في مرحلة الستينات، بعد توهج لافت في الخمسينات، كان يستخف بالمال الذي يطمح إليه الجميع، وفاجأ مقدم البرامج الشهير "لاري كينج"، في لقاء نادر عام 1994، برأيه في سيطرة اليهود على السينما الأمريكية، وقال: "لا أحب أن تبيع نفسك مقابل المال"، وأضاف: "لا أحد سيدفع لك المال الذي تجنيه من التمثيل، بينما انت من يقرر بحق ما الذي تقوم بفعله لنفسك".
استطاع براندو أن يظهر مشاعر الشخصية التي يجسدها أكثر واقعية، وتعلم من المواهب الاستثنائية – وفق وصفه – لمعلمته "ستيلا أدلر"، كيفية إدراكه للمشاعر الخاصة لكل شخصية، مع ضبط الإيقاع المناسب باحترافية، وقد حاول البعض اتباع هذا المنهج لكنهم فقدوا مفاتيح الشخصية – وهربت منهم ملامحها – وفق رأي العراب: "رأيت ممثلين يعطون كل ما لديهم بفاعلية، لكنهم كانوا قَبْحَى في التعبير عن مشاعرهم، وهناك الصادق مع نفسه لكنه مملًا".
طبيعة شخصية براندو المتمردة، والمزعجة للبعض، كانت ثمرة طفولة غير منعمة، تأثره بأمه الممثلة المغمورة السكيرة، وغضبه من الأب زير النساء، دفعاه لطريق النجاح، وأثرت تلك النشأة في بقية حياة براندو، الذي قال: "لو كنت بصدد أداء مشهد ما يتطلب مني أن أكون غاضباً، يمكنني على الفور أن أتذكر والدي وهو يضربني"، على النقيض تألم لوفاة والدته عام 1954، وأعطاها التقدير المناسب في مذكراته الشخصية التي حملت عنوان " أغاني علمتني إياها أمي"، وحينما قرر تأسيس شركة انتاج فني، اطلق اسمها – قبل الزواج من والده- "دورثي بينباكر"، على مشروعه الفني.
في الوقت الذي راهن البعض على انطفاء توهجه الفني، بعد تراجع إيرادات أفلامه، يقرر براندو إشعال الموجة الثانية لثورته التمثيلية من جديد، في فيلم الأب الروحي، رغم اعتراض شركة الإنتاج، التي تخوفت من الخسارة التجارية لأفلامه، يقرر النجم الكبير أن يقدم "تجربة أداء"، ويدخل غرفته ليصنع المكياج الداخلي للشخصية، وخارجيًا يثقل الحاجبين والشارب بقلم "كحل"، ويضع في فمه قطعتي قطن لنفخ الخدين، ليخرج زعيم المافيا "دون فيتو كوروليوني"، دوره الأشهر الذي غير من صورة الشاب المندفع الوسيم، إلى عجوز يخشاه الجميع، وفي ذات الوقت محب لعائلته.
جراءة مارلون، تخطت حاجز السينما، وظهرت في مواقفه المؤيدة للزنوج، واللاجئين، والهنود الحمر، كان يمقت أصحاب السلطة، ويناصر المستضعفين، شارك في مظاهرات مارتن لوثر كينج، منددًا بالتفرقة العنصرية، وفي عام 1973، يحرج الإدارة الأمريكية عندما أرسل في حفل الأوسكار، بدلًا منه لاستلام جائزة أفضل ممثل عن فيلم الأب الروحي، الممثلة المبتدئة، ساشين ليتلفيزر، مرتدية الزي الرسمي لأجدادها من الهنود الحمر، وقرأت خطابه الشهير الذي استهجن سحق حقوق الهنود في أمريكا.
بعد مسيرة رافقها التمرد، والشغف، والشغب، هل تتفق مع الممثل أنتوني كوين، عندما قال، "أنا معجب بموهبة مارلون براندو، لكنني لا أحسده على الألم الذي عاش به".
لا يفوتك