محمد عبد المطلب.. سلطان المغرمين بـ"الموال"
يعوج طربوشه، ويبرز المنديل من جيب البدلة، وفي عز "سلطنة" الموال، لا يتوقف أولاد البلد عن الصياح والتصفيق: "الله عليك يا طِلب"، وبعد انتهاء فقرته، يجلس على القهوة وسط أصحابه، يغني اللون الذي اختاره ولم يباريه فيه أبناء جيله، "عبد الغني السيد، سيد شطا، عبد العزيز محمود"، أرض فنية خصبة لم يعمرها سوى صوت "محمد عبد المطلب"، الذي أصر دومًا أن يكون منفردًا، لم يقلد أحدا، وعندما قلدوه انسحبوا سريعًا.
قبل الراديو والتلفزيون، كان أعيان القرى والمراكز يستضيفون نجوم الغناء والطرب، مثل أبو العلا محمد، زكريا أحمد، صالح عبد الحي، كان بيت البيه أو العمدة قبلة الفلاحين ليلًا، يستمعون إلى نجمهم، وقد كانت عائلتي الدفراوي والألاتاوي، في مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، تحرصان على حضور أمير المطربين "عبد اللطيف البنا"، ويغني طقطوقة "إيه رأيك في خفافتي"، و "ارخى الستارة اللي ف ريحنا"، وفي وسط زحام أهل القرية، كان الطفل "محمد عبد المطلب عبد العزيز الأحمر"، يذاكر عبد اللطيف أفندي البنا، ويحفظ عنه أغانيه.
كعادته، يهرب عبد المطلب من كُتاب الشيخ محمد السنباطي، يرمح في الغيط وراء الناس المغرمين، أهل المحبة الذين كانوا جمهوره الأول، يجرب صوته معهم، وهم يستمعون إلى أغنية "يا حليلة يا حليلة" لعبد اللطيف البنا، وبناء على طلب المستمعين يغني لسلطانة الطرب "منيرة المهدية". ومن مصروفه يشتري بمليم كتب الأغاني.
ساكن في حي السيدة
شهد يوم 4 أكتوبر عام 1924، حدثا لم ينسه "طِلب"، نزوحه إلى القاهرة مع أخيه الأكبر الذي كان يدرس في كلية التجارة، سرعان ما التحق الأخ الأصغر عبد المطلب بـ معهد الموسيقى العربية، لكنه فشل في استكمال الدراسة، بعدما انشغل مبكرًا بالطموح والشهرة، وأحيا حفلًا على مسرح الأزبكية، بدعم مادي من بعض أعيان القاهرة.
فشل حفل الأزبكية، ولم تكن المرة الأولى. ذهب إلى الإسكندرية، وغنى في محطة الرمل في محل المطربة "فتحية محمود"، لم يفهمه الجمهور، هاجموه: "بايخ انزل.. انزل"، في الكواليس نزلت دموعه، وبعدها بسنوات صفّقت له الإسكندرية عندما اصطحبته الراقصة "ببا عز الدين"، وكلما ذهب إلى هناك، يقرأ الفاتحة على تلك الأيام التي شهدت بدايته.
نزل عبد المطلب شارع عماد الدين، كان يقدم النمرة الأولى في تياترو "بديعة مصابني"، مقابل 5 جنيهات ونصف شهريًا، يعطي ربع الراتب لمدام ماريا صاحبة البنسيون، بعد ذلك أغلقت بديعة المحل وسافرت، وكانت وجهته "محمد عبد الوهاب"، الذي "ربى صوته" وفق قوله، كان يعمل "مذهبجي"، وهو ما يعرف حاليًا باسم "الكورس"، ولمدة ثلاث سنوات يتعلم من عبد الوهاب، الذي شغلته السينما بعد ذلك عن التخت، كما نسي وعده لعبد المطلب أن يأخذه معه في إحدى سفرياته إلى باريس، وقرر "طِلب" أن ينفصل فنيًا عن عبد الوهاب.
يا أهل المحبة أدوني حبة
لازم الفقر عبد المطلب، لم يكن يملك سوى نص فرنك، وبلباقة زكريا أحمد، الذي عاش لفترة عنده، أعطاه أغنية في رواية لعلي الكسار، "اوعاك يا قلبي تقول مليت مهما الزمان يعند وياك.. ارضى وخلاص بجميع ما رأيت.. مدام كده اتخلقت دنياك"، بعد ذلك التقى بالملحن اليهودي "داوود حسني"، الذي جعله يؤذن الفجر في الجامع لمدة عام، حتى يتكون صوته كرجل، ودربه على تمارين الصوت والرتم، وكان عبد المطلب يعده صاحب الفضل عليه فيما وصل إليه في مشواره الفني.
بعد تجهزه فنيًا للغناء، سجل "أبو نور" – اللقب المفضل لدى طِلب– 6 أسطوانات لشركة "بيضا فون" التي كان يديرها الفنان زكي مراد، والد ليلى مراد، وحصل عبد المطلب على 12 جنيها، ثم بعد ذلك ذهب إلى إذاعة القدس، وغنى هناك مقابل 30 جنيها شهريًا، وعندما عاد فوجئ بانتشار إحدى أغانيه في معظم الراديوهات، "بتساليني بحبك ليه.. سؤال غريب مجاوبش عليه".
عندما كانت تضيق عليه الدنيا، كان يجد دعمًا من المبدعين، لم يكن يمتلك مالًا بسبب ظروف الحرب، سافر إلى رأس البر، والتقى بالفنان نجيب الريحاني، الذي جعله يقدم حفلة في التياترو دون مقابل، وكان يقدمه الريحاني بنفسه للجمهور، وتصادف في ذلك اليوم حضور الصحفي محمد التابعي والمطربة أسمهان، التي كانت سببًا في زيادة إيراد المحل في هذا اليوم من 300 جنيه إلى 400، حيث قطعت تذكرة لوحدها بـ 100 جنيه، وعندما انتهى عبد المطلب من فقرته، شد على يديه التابعي، وكافأه بمبلغ 50 جنيها.
وضعت الأمل فيك ليه تجافيني؟
كان عبد المطلب متهورًا في شبابه، واعترف بذلك في أحد اللقاءات دون خجل، كان يصرف ما يكسبه على الفنانات، اللاتي ظلمهن المجتمع بنظرة غير لائقة، لهذا كان يمعن في الإحسان لهن، ولم يكن يقبل النقد السلبي، مثلما حدث مع الصحفي العربي الذي كتب عنه أنه مستهتر في العمل، عندئذ ترك عبدالمطلب حلاقة ذقنه، وبحث عن هذا الصحفي كي يضربه، لكنه لم يوفق في الحصول على عنوانه.
وكان عاشقًا للفنانة حكمت فهمي، التي كانت تشعر به، لكن لم تبادله المشاعر، وفضلت عليه زبائنها الباشوات، فكتب لها خصيصًا أغنية من تأليفه – وهي المرة الوحيدة - "يا للي وضعت الأمل فيك ليه تجافيني.. وليه عذابك لقلبي وانت نور عيني".
30 مارس 1955، دخل عبد المطلب غرفته، وبدأ يتأمل شبابه الذي مضى في الشجار والتهور، شعر أن أولاده يكبرون، لذا قرر أن يُخرج للنور عبد المطلب جديد، أقل حدة وتهورًا، ساعده على ذلك التغيير، زواجه الثاني من شقيقة زوجة الملحن محمود الشريف، والتي كانت سببًا في توفير مناخ مناسب له.
دخل عبد المطلب الإذاعة المصرية، وحقق نجاحًا باهرًا، وكان المستمعون ينتظرون أغانيه يوم الأربعاء، وأم كلثوم يوم الخميس، وفي دمياط كان يطلقون على أربعاء عبد المطلب "ليلة الحنة"، وخميس أم كلثوم بـ "ليلة الدخلة"، ورغم ذلك لم يحقق نجاحًا في السينما، التي بدأت أولي مشاركاته فيها بفيلمي "تاكسي حنطور"، و"الجيل الجديد"، فضًلا عن المشاهد التي كان يظهر فيها مطربًا فقط.
غرق عبد المطلب في الشرقيات، وكان يتسلطن عندما يغني من مقام البياتي، لذا لم يرحب بالآلات الغربية في المزيكا التي يغنيها، لم يهضم هذا اللون، ومع ذلك غنى "يا بايعني وانت شاري"، ويا "أهل المحبة"، يشتاق لـ "القانون والعود"، ويشبه الجيتار و"الأورج" بالحلل والسكاكين، لكن حتى لا يفوته القطر، استخدمهم على استحياء، ينظر خلفه على المسرح يجد زحمة الآلات الغربية على المسرح، فيلتفت للجمهور ليغني "ودع هواك وانساه.. عمر اللي فات ما ح يرجع تاني".