نصف قرن سمير فريد
استقبلت جمعية نقاد السينما المصريين مساء الأحد الماضي (31 مايو) أحد مؤسسيها ورموزها، الناقد الكبير سمير فريد، في احتفاء خاص بعنوان "سمير فريد.. نصف قرن من النقد"، احتفالا بمضي خمسين عاما كاملة على بدء ممارسته للنقد السينمائي عام 1965. رقم مخيف حقا لأمثالي ممن يمارسون المهنة منذ عقد على الأكثر، لكنهم يشعرون بالملل وقصر النفس وأحيانا بنفاد المخزون. بينما يستمر سمير فريد يكتب عموده اليومي في المصري اليوم بدأب، يكتب عن جديد الأفلام، يشجع المواهب الشابة، يغطي المهرجانات العالمية، ويدلي بدلوه في السياسة والشأن العام، بالرغم من عدم التقدير المتزايد الذي تجده أي مادة تثقيفية عامة وسينمائية خصوصا في المطبوعات المصرية، حتى أن مقال رجل بحجمه يُنشر أحيانا "في صفحة الوفيات"، حسب تعبيره خلال الندوة.
بخلاف قيمة الاحتفاء المعنوية، والتي تصب في نفوس الحضور الأصغر سنا أكثر بكثير من تأثيرها على صاحب الليلة الأكبر من أي حفاوة. فإن السماع لحديث سمير فريد الشيق عن ذكرياته (فالندوة تحولت بالطبع لحديث ذكريات كعادة جمعية النقاد عند استقبال روّادها)، قيمة خاصة في قلب كاتب هذه السطور، تتجدد في كل مرة استمع فيها لقليل مما شهده النقاد الثلاثة الأكثر تأثيرا في قراري بانتهاج هذه المهنة، الأساتذة الثلاثة علي أبو شادي وكمال رمزي وسمير فريد.
فبالرغم من أن الثلاثة الكبار يعدون تاريخيا هم الجيل الثاني من ممارسي النقد السينمائي في مصر، إلا أنهم كانوا أول جيل يعلي حقا من شأن المهنة، كممارسة منهجية تقوم على أسس علمية، ومشوار عمر ووظيفة يُعرّف الإنسان بها طيلة حياته. فإذا كان الجيل الأسبق هو من أسس لوجود مساحة للثقافة السينمائية في المطبوعات المصرية، فإن جيل سمير فريد هو الجيل الذي كوّن أول تيار نقدي حقيقي ومؤثر، ويكفي أن مؤلفات هذا الجيل لا تزال هي الأكثر طلبا واستخداما كمراجع من قبل محبي السينما ودارسيها سواء في الأبحاث والرسائل الأكاديمية، أو في الدراسات النقدية والمقالات، أو حتى في القراءات الفردية.
قد يكون للعلاقة الشخصية التي تربطني بالثلاثة المذكورين والتي أزعم أنها قد صارت "شبه صداقة" تأثير بالطبع في الرأي السابق، فأمر حساس مثل الأستاذية يصعب فيه الفصل بوضوح بين الخاص والعام، خاصة إذا ما كان الخاص هو مزيج من الحكايات السينمائية التي لم نعشها والآراء والسجالات، والاتفاق والاختلاف حول قضايا الفن الذي نجمع على تقديسه. ولعل حديث سمير فريد خلال الندوة عن علاقته الإنسانية بنكسة يونيو وتأثيرها عليه مهنيا هو المحرك الرئيسي لهذا المقال.
فالحديث يمس بوضوح قضية سينمائية تشغلني، لطالما أثرتها مع الأساتذة الثلاثة وغيرهم، تتعلق بتأثير جيلهم، أو للدقة انتماءات جيلهم السياسية، على تأريخ الإنتاج السينمائي المصري. فجيل الستينيات كان بحكم الزمن مؤدلجا ومستقطبا، أو على أقل تقدير مؤمنا بالدور الاجتماعي والسياسي للسينما، وكان ذلك منهجا استخدم بكثرة في التعامل مع الأفلام وتقييمها، الأمر الذي أعلى تلقائيا من أسهم الأفلام "الملتزمة" بقضايا الوطن على حساب غيرها، وعلى حساب الجودة الفنية أحيانا. الأمر الذي يتهمني الأستاذ علي أبو شادي دائما فيه بإسقاط عنصر الزمن والسياق العام منه، باعتباري أحاكم ماضٍ لا أعرف الظروف الكاملة المحيطة به، بمقاييس حاضر لم يكن من الممكن تصوره قبل عقود.
الحقيقة أنني لم أسع أبدا لإدانة جيل الستينيات النقدي، بل بالعكس أعتبره كما ذكرت الجيل الأكثر إخلاصا وتأثيرا، والأكثر اتساقا مع ذواته في التعامل مع السينما، ففي النهاية هذه كانت ـ وربما لا تزال بحدة أقل ـ آراءهم وقناعاتهم. لكن الهدف الدائم من إثارة القضية كان إعادة النظر للتراث السينمائي المصري بعين غير مؤدلجة، ليس بغرض نصب المحاكم للأفلام التي تم تقديرها أكثر مما ينبغي، لكن لهدف أهم هو منح التقدير لأعمال كانت تستحقه لكنّها لم تناله لأنها إنحازت للفن البصري أو للقيم المطلقة في زمن البحث عن الالتزام السياسي والاجتماعي.
سمير فريد روى الحكاية المؤثرة عن جيله الذي شب فلم يعرف زعيما سوى عبد الناصر، وبالتالي لم يحب شخصا مثله، بكل ما أزكاه فيهم من روح الفخر والإيمان بالقدرة على صنع المستحيل. الأمر الذي تحطم على صخرة الهزيمة، التي علم الأستاذ سمير بعدها أن أحد عشر زميلا من زملائه في الجامعة قد استشهدوا في يومها الأول، بينما كان هو قد أعفي من الجيش لأنه "لم يصبه الدور"، ليتحول الأمر بالنسبة له لدراما قدرية يشعر فيها ـ حسب كلماته الخاصة ـ أنه يعيش فقط لأنه لم يصبه الدور.
شعور كهذا يُمكن بسهولة تفهم مدى تأثيره على تلقي الشخص للأفلام وتعامله النقدي معها، الأمر الذي أدى لحالة معاكسة من الاعتراف الجماعي بالذنب تجاه صناع أفلام مهرة كانوا في حكم "أعداء المثقفين" وقتها أمثال حسن الإمام وحسين كمال، وإن كانت المراجعة هذه لا تعني أن كل ما كُتب بعد النكسة كان خاطئا، بل بالعكس فإن التجربة المفجعة أتت بجرأة أكبر وصياغات أكثر حذقا، مع بعض المبالغة والأحكام السياسية والاجتماعية هنا وهناك.
ما شهدته من الأستاذ سمير يوم الاحتفاء به، وما أشهده دائما من الأستاذين علي وكمال، هو روح دائمة البحث عن الحقيقة، روح لا تخجل من إعادة النظر لما قدمه الشخص في الماضي، فلا تبخس النفس قدرها من الاجتهاد والتفرد والإنجاز، ولا تكابر في الاعتراف ببعض الهنّات وليدة الزمن وأحكامه. وحديث مثل ما سمعناه من سمير فريد، هو حافز لكل أبناء جيلي والأجيال الأحدث على استكمال مسيرة إعادة قراءة تاريخ السينما المصرية على طريقة الأساتذة: بدأب وهدوء ودون تشنج، وبنضج يسمح للشخص أن يعي استحالة الديمومة، فرأيك في الفيلم والمشهد والمنهج وكل شيء أمر وقتي، ديناميكي يتغير بمرور الأيام. لعل هذا الفهم يبث فينا بعض الأمل في أن نكون يوما أصحاب مشوار يبلغ ولو نصف ما قدمه سمير فريد وباقي الأساتذة.