نموذج مثالي لشائعة
أن تستيقظ صباحا، لتأتيك عناوين الأخبار: أن ملايين المصريين ينعون شخصا مجهولا توفي فجأة فى منزله، وتُفاجأ بسيل منهمر من مآثره الأخلاقية والدينية التي تجهلها مثلما تجهل شخصه، فهذا يعني أن هناك تقصيرا شديدا منك في متابعة الأحداث، ومعرفة كرماء القوم.. وأن تنظر حولك لتجد الآلاف، يسعون مثلك لمعرفة شخص المتوفىَ، فهذا يعني أن هناك فخا قد نُصِب لك ولهم.
وأن تعيد النظر ثانية لتجد أن هناك ملايين لم يعنهم أمر المتوفىَ، ولم يشغلوا بالهم في البحث عنه، لعدم تعاملهم بالأساس مع وسائل النشر التكنولوجية، فهذا يعني أن هناك اختبارًا موجهًا لأهل الميديا، لجس مدى إمكانية استغلال براءتهم الإنسانية مرة أخرى.
فإذا ما حاولت أن تنبه لفخ يعاد صنيعته لألف مرة، فستلاحقك دعوات الإنسانية الزائفة لتنهرك وتصدك عن أي محاولة للفهم والإدراك لما يُعدُّ حولك، مثلما حدث معك من قبل حينما بدأت تنتبه لمخاطر ما يحدث بالشارع من انهيار أمني وتحلل لسيطرة الدولة، وصعود وإحلال مكثف للمتطرفين بديلا عن أركان الدولة التقليدية، فلاحقتك دعوات الاتهام بمناصرة الفساد والتفريط في الدماء وكشوف القوائم السوداء.
ربما يكون كل ما سبق من هلاوس نظرية المؤامرة التي سيطرت على عقولنا، من فرط سوء وقبح وإجرام فريق ضخم ممن تصدوا للمشهد السياسي في السنوات الماضية.. لكن بمتابعة بسيطة لمآثر الراحل عبر صفحات بالإنترنت، تجد أن مآثره ومحاسنه لن تخرج عن مشاركته في جماهيريات حازم أبو إسماعيل، ومسيرات للإخوان تطالب بعودة الإرهابي لحكم البلاد، ورفعه لشعار رابعة ومشاركته في الاعتصام الإرهابي بها، وتأييده للشرعية المزعومة لدواعش الداخل، إضافة لمُكسِبات إخوان/ سلفية، من نوعية الاستظهار بالصلاة والاحتفاء بالموت كشعيرة إخوانية خلقها وروجها المجاهدون ضد بلادهم، وعبارات التنظير لعظمة وجمال وفلسفة الحجاب التي لا يدركها البعيدون عن طريق الله، والمشاركة في تنظيم رحلات للأراضي المقدسة، ثم التقاط الصور الدالة على الزهد ونشرها بآلات ووسائط تكنولوجية لا علاقة لها بالتنسك والتخلي على الإطلاق، ثم صور الحياة الزوجية السعيدة تذيلها دعوات الأصدقاء بدوام السعادة.
حياة ليست لمواطن بسيط مات فجأة، فشيعه جيرانه وأقاربه بالدعوات لحسن مآثره، بل هي عملية ترويج كاملة الأركان، عبر محاصرتك عصبيا في خانة اللاإنسانية واللا دين، إن حاولت مجرد المحاولة فهم مجريات الأمور فضلا عن الاعتراض على سياقها.
المحاولة ليست بجديدة، فكل هؤلاء القابعين خلف أسوار السجون، هناك من لمّع سيرتهم وبيّضَ وجوههم من قبل، حتى صاروا يسيرون بين الناس بصفتهم وطنيين مخلصين، ذوي ولاء للشعب وللأرض، قبل أن يقلبوا ظهر المجن ويزرعون الخراب علنا وتبجحاً في جنبات البلاد.. والترويج ليس للفرد دوما ولكن لجماعة لفرد.
كان يمكن للأمر أن يظل مجرد احتفاء إخواني/ إخواني بشخص توفي بينهم، وهو أمر منطقي للغاية. لكن حقيقة الأمر أن التفاعل المخزي بين وسائل التواصل الاجتماعي وبين محرري الصحف المتكاسلين، المقتنصين لأفكارهم وأخبارهم من ثنايا ما يشيع بجنبات الفيس بوك، جعلهم إما عن تقصير في التقصي أو ركوبا للموجة الإنسانية، أو عن تعاطف مع الجماعة، يقومون بمهمة نشر إخوانية بكفاءة، تحت مظلة نشر الخبر، في حين أنهم قد خلقوا خبرا من باطن المجهول.
فها هو إخواني يموت، تنعيه الملايين وتبكيه بحسب المانشيتات الصحفية، فإن تشارك باعتصام رابعة لا يهم، تساند حازم أبو إسماعيل لا مشاحة، تحارب ضد وطنك فتفاهات لا تستوقف العقلاء والنوابغ أصحاب الأفكار الكبرى.. فالملايين يبكون إنسانا، ألا تدري يا هذا ما معنى إنسان؟! الإنسان يفوق كل ما اختاره في حياته، وكل ما سانده وأيده ومارسه ودعا إليه، إنه خارج غلاف الطاقة المحيط بجسده، الإنسان أيها الجهول هو المجرد من كل شيء حتى أفعاله، الإنسان ملاك هلامي، ألا تشاهد صوره؟!
إذا كانت الملايين قد بكته بشهادة صحافتكم القومية وصحافتكم الخاصة المؤيدة للانقلاب، فمن أين تزعمون أن الشعب يعادي الإخوان؟ إن الثورة الإخوانية هي ثورة شعب، وها هو الشعب يبكينا بشهادة صحافتكم، فما أصل زعمكم الكاذب؟!
جنازاتان أخريان، وسنطالب ممثلي دولتكم بالمشاركة رسميًا فيها!! هكذا لسان الحال!
وحقيقة الأمر أن الصحافة لم تنشر الخبر، بل صنعته صنعا، إن كل من استيقظ صباحا ووجد منشورات أخبار أصدقائه بالإنترنت تخبره بأن الملايين يبكون إنسانا نبيلا قد مات، فإنه سيشعر بالخزي من ذاته، ويبدأ في اجترار التعاطف اجترارا، في ظل سيادة العاطفة ومحاولة العقل للاختفاء مؤقتا أمام الشواهد التي تلاحقه تشكيكا فيما يقرأه، فضلا عن غياب أي أساس منطقي للقصة، وسيرضخ رغما للموجة.
لم نصادف قبلا أفراد جماعة الإخوان يتناقلون في مواقعهم وقنواتهم، أن الجندي مقاتل الشحات شتا أو النقيب كريم وجيه أو العميد المرجاوي أو النقيب وائل المر، الذين استشهدوا جميعا لأجل إطالة بقاء هذا الوطن على الأرض، أن هؤلاء هم شهداء السماء أو أن سيرتهم الحسنة تسبقهم نحو الجنان، أو ترويج شهادة جيرانهم عنهم بالتواضع والإنسانية، فقط لأن أيا منهم لم يملأ الفيس بوك ادعاءات أخلاقية مظهرية أو صورا للمرح الزوجي، كما أنهم لم يتوفوا بمنازلهم، فضلا عن كونهم لم يحاربوا بلادهم وشعوبهم، وكان من سوء طالعهم أنهم اختاروا الدفاع عنها.. كما أن منهم من لم يشتهر بامتلاكه حسابا بالفيس بوك.
والأهم هو دفاعهم عن وطن، طالما اعتبره الإخوان بقرة، يجب أن تمد دولة الخلافة المتوهمة بألبانها.
فإن يأتي هذا الترويج للإخوان من داخل مؤسسة صحفية تابعة للدولة المصرية، وأيضا من داخل صفحات جريدة خاصة تروج لنفسها باعتبارها وطنية، فهذا يوضع في أفضل الأحوال، وباستبعاد نظريات القصد والمشاركة في الإثم البشع، تحت طائلة الإهمال وغياب الكفاءات والمهنية، التي شنفَ آذاننا مسئولو هذه الصحف، في تكرارها حتى شعرنا جميعا بذنب غياب مهنيتنا- كل في وظيفته- يثقل كاهلنا.
كما أن رؤساء هذه المؤسسات الصحفية قد ملأوا الفضائيات حديثا عن الإصلاح الهيكلي والوظيفي والاقتصادي، فضلا عن مواجهة الفساد وفضحهم لملامحه. الفساد الذي أظن أنه يصبح بمثابة ملاكاً طاهرًا، مقارنة بترويج إعلاني مجاني للجماعات الإرهابية بمطبوعاتهم، الصادرة بأموال الشعب..