التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 05:32 م , بتوقيت القاهرة

ما تشتمش يا حيوان

قالها أحدهم بصوت عالٍ جهير بينما كنتُ أمرّ إلى جوارهم (مجموعة من رجال يتصارعون لأجل "ركنة عربية").. في البداية بدت الجملة عادية جدًا، بل أنني كدت أشيد على القائل لولا أني سمعت صداها عدة مرات في داخلي "ما تشتمش يا حيوان".


الكلمة الأولى جميلة جدا وطلب مشروع وجميعنا نهدف إليه "ما تشتمش"، ولكن كيف لها أن تقترن بشتيمة بعدها! لتأتي موسيقى من أعماق عقلي الباطن ثم صوت ريهام عبد الحكيم قائلة: "يا كل حاجة و عكسها".


غريب جدا هذا التناقض، ولكن الأغرب هو اعتيادنا عليه، لدرجة أننا قد لا نميزه أو لا ننتبه إلى وجوده. وكيف لنا أن نلحظه وقد ترعرعنا عليه ودخل في بناء تكويننا النفسي؟


منذ صغرنا، التناقض دخل حياتنا من بداية تعامل الأهل في أغلب الأسر المصرية "الولد غير البنت"، أن نرى الأهل القدوة وهم يكيلون الأمور بميزانين يجعلنا بشكل طبيعي نتقبل في الكبر، أن نبدأ حياتنا كمراهقين بمبادئ ونصائح وتوجيهات من الأمهات تحت عنوان "البنت الخفيفة هم تقيل"، ولا نلبث أن نغير كل ما سبق إلى النقيض بعد سنوات ليست بكثيرة تحت عنوان "البنت التقيلة هم أتقل"، وبين هذا وذاك تضيع الفتاة وتظهر بألف وجه وهذا تمامًا ما نجده عندما أرى صديقتي في الثانوية بشخصية، وبعد الجامعة بشخصية أخرى، وبعد الزواج بلا شخصية أصلا!


أو مثلا دعاء الأمهات ليل نهار لتجد لبناتهن عريسًا شهمًا كريمًا مخلصًا يرفع بناتهن "على كفوف الراحات" في الوقت الذي إن شعرت إحداهن- الأمهات- أن ابنها يعامل زوجته بهذه الطريقة لقامت الدنيا ولم تقعد واشتعلت نيران تأكل ألسنتها العائلة بأكملها بشكل مشابه.


 كنت أحضر إحدى دورات اللغة الإنجليزية، وأثناء حوار بسيط أسهب فيه محمود بالتحدث عن حبيبته التي تفهمه وتتعامل معه أفضل من أمه وأبيه، مطيعة ولا تضغط عليه بقصص من تزوج من ومن طلب يدها بهدف الإسراع بخطبتها، بل أنه كان يجزم أنها لم تطلب منه خطبتها ولا مرة خلال السنين التي قضياها معًا، بعد قليل وفي نفس الجلسة عند تحولنا إلى موضوع آخر، ذكر محمود أن قدوته الأولى والأخيرة ومرجع تصرفاته هي السنة النبوية الشريفة، ما يجعلك تهتف في داخلك " يا رااااااااااااجل" ماذا عن قصة صحوبيتك الإسلامية الوسطية الجميلة؟ أين هي من الإسلام والسنة؟


بل إن التناقض في هذه الناحية قد يفوق مرحلة محمود ، ليصل إلى س و ع و ص و ط و ظ، الذين ما إن يبدأوا علاقة "صحوبية" حتى يبدأوا بفرض الحجاب والـ "جيبات"، وما وسع وما طال، وما يجب ومالا يجب، وما إن يراها حتى يسارع باحتضانها أو مسك يدها كأضعف الإيمان.


كذلك تناقضك أنت نفسك ومع نفسك عندما "تستغلي" تبرع لجمعية خيرية ببعض الجنيهات وحرصك الشديد أن تعرف ستذهب إلى أين وكيف رغم أن الأعمال بالنيات، بينما تدفع المئات داخل محل ملابسك المفضل على منتجات تعرف جيدًا أنها لا تستحق سعرها المبالغ فيه.


والأمثلة كثيرة وتكاد تكون لا حصر لها، غزت عقولنا من كل النواحي الاجتماعية والأسرية والعاطفية والسياسية وحتى الإنسانية، نتعاطف فقط مع من نريد، نغفر له ما لا يغتفر ونبرر له مالا يبرر دون أن يرمش لنا جفن، ونحاسب الجهة الأخرى بأشد الحساب على أبسط الأفعال، وقد بلغ التناقض منّا مبلغًا أننا نفعله وننقده في الآخرين!


التناقض داخلنا ليس بسبب كوننا "شعب عاطفي" ولا حتى لأننا "شعب متدين بطبعه" و"حافظ مش فاهم"، ولكن التناقض مرجعه أننا لا نؤمن، حقًا هو قلة الإيمان، لأننا لا نؤمن بالمبدأ بل نطبقه وكفى. فمن يؤمن بمبدأ أو يملك مبدأ في الأساس يعرف كيف سيطبقه على حياته مهما تبدّلت كفتي الميزان، سيعرف متى يجوز التراخي إن جاز التعبير ومتى يصبح المبدأ لا تنازل عنه، أن تحافظ على مبادئك هي بذرة لمجتمع جديد اهترأ من الأمراض التي جلّ مرجعها هو التناقض.


ألا نردد كلامًا كالببغاء هو أسلوب حياة مختلف تمامًا عمّا نعيشه الآن، بل أسلوب لحياة أفضل بكثير، ولا سيما أن الكثير من العادات الاجتماعية بالية حقًا دعونا نفكر بها، ونتخلى عنها إن لزم الأمر، لا أن ندافع عنها باستبسال لننبذها بعد أول مواجهة ويكون "حلال علينا حرام على غيرنا".. فلا "إحنا ناقصين" ومصر تستحق منّا الأفضل "مش كده ولا إيه؟".