ألف مشهد ومشهد (23)
فاخر فاخر
ممثل كبير، ما اعتقدش فيه تقديم له أجمل من قصيدة صلاح جاهين اللي كتبها في رثاؤه، لما اتوفى سنة 1962، واللي بـ يختمها كده:
من غير قوافي كتبت فيه مرثاه
اكمنه مات مش زي كل الناس
هو أبو هالة فاخر، وهو من أسيوط، تحديدا من أبو تيج، قرية الدوير، وحياته مفيهاش يتحكي غير أنه عاش خمسين سنة، لعب فيهم عشرات الأدوار، وعلى رأي جاهين "كان دور صغير، بس كان دور جميل"، واتوفى في البلاتوه، بـ ذبحة صدرية، والسنة اللي مات فيها اتعرض له 8 أفلام، غير تلاتة اتعرضوا بعد وفاته.
فاخر لعب في اللص والكلاب دور الشيخ الصوفي، اللي بـ يلجأ له سعيد مهران في الشدة، مرة أول ما خرج من السجن، والمرة التانية لما ضاق عليه الحصار.
المنطقة دي من أهم الاختلافات بين رواية محفوظ والفيلم، الشخصية في الرواية أعمق بـ كتير، أقرب لـ شخصية عبد ربه التائه، اللي محفوظ كتبها في "أصداء السيرة الذاتية"، ورغم كده بـ ألاقيني منحاز أكتر للشخصية اللي في الفيلم، يمكن لأنها أكتر مناسبة للموضوع من وجهة نظري.
الشخصية دي هي اللي بـ تدينا مفتاح الجانب الصوفي في الموضوع كله: سجن الجسد، سجن الحياة، سجن الانشغال بـ الحياة، الحجاب اللي عازلك عن "الحقيقة".
لكن الفيلم بـ يقدم إدانة للشيخ على انقطاع الاتصال أكتر ما بـ يقدم إدانة لـ سعيد نفسه؛ بداية من اختيار شكل الشيخ الغرائبي، ولغته الفصيحة، وصوته "المونوتون" الخالي من الانفعال والتفاعل، وقعاده على مكان عالي بـ النسبة للجالس تحت، والحوار .. الحوار يا إخوانا، كل جملة بـ يقولها الشيخ في المشهدين محتاجة مقال.
لكن إجمالا، هو بـ يسمع كتير لـ درجة إنه مش بـ يسمع حاجة، ما بـ يحاولش يفكر في مشكلات المواطن، اقتناعا منه بـ إن الحلول الجاهزة هي الصح المطلق، ومقتنع إنها سهلة ومريحة، ومكتفي بـ إن اللي مانع المواطن عن إنه يشوف الحل ده، إنه مش بـ يشوف.
سعيد مهران إنسان عنده مشاكل "على الأرض"، ما ينفعش تقول له إن الحل في السما، ما ينفعش تقول له: "مرحى للدنيا إذا اقتصر أوغادها على ثلاثة" إذا كان "الثلاثة" دول، هم كل عالمه وسبب وجيعته، ما ينفعش تقول: "هو عادل أبدا"، لـ واحد غرقان في الظلم لـ حد شوشته، ما ينفعش تقول له أي حاجة من دي، حتى لو "صح"، لـ إن الموضوع مش صح وغلط، ده لو عايز فعلا تساعد الناس.
علشان كده، تلاقي إن لجوء سعيد للشيخ كان دايما الحل الأخير، أول ما طلع لجأ سعيد لـ نفسه وراح يطالب بـ حقه مباشرة، فشل.
أول ملجأ بره نفسه، راح لـ طرزان صاحب الخمارة الخارج عن القانون والأعراف، وما خذلوش، حتى لو عدم الخذلان ده أضره، بس لما تقع في ضيقة، شعورك إن حد فـ ضهرك أهم بـ كتير من الانفراجة.
الملجأ التاني كان أستاذه رؤوف علوان، اللي اتكلمنا عنه المرة اللي فاتت، وده مش بس خذله، ده نصب له الخية اللي شنق بيها نفسه، واداله بـ اليمين، بـ الشكل اللي خلاه يعتبره "زبون الليلة"، بس لـ إنه مسيطر، خد اللي اداهوله بـ الشمال، بعد ما ضمن إنه مش هـ يديله تاني.
في الآخر خالص لجأ للشيخ، لكن اللي ساعده فعلا، ووفر له كل حاجة، كان حد تاني خالص، حد ما لجأش له سعيد خالص (نور).
يمكن علشان كده، كان عظيم ورائع إن قفلة المشهد الأول بين سعيد والشيخ كانت قرار سعيد إنه: يا رب لك دين لازم أوفيه، ولي دين لازم أصفيه، بينما كانت قفلة المشهد الختامي بينهم أشعار ابن الفارض على لحن أيوب المصري:
يا حسرتي ضاع الزمان ولم أفز
منكم أهيل مودتي بلقاء
وكفى غراما أن أبيت متيما
شوقي أمامي والقضاء ورائي