التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:41 م , بتوقيت القاهرة

مبروك لمصر وللوطن العربي دار الوثائق القومية الجديدة

يد تبني ويد تهدم.. تلك المقولة التي أؤمن بها بالقدر الكافي الذي يجعلني في قمة سعادتي أثناء مشاركتي في تنفيذ أي مشروع قومي يتبع الدولة، مشاركتي هذه بحكم عملي "كمصممة ديكور تعمل في وزارة الثقافة المصرية"، أو كما أحب أن يُقال عني وزملائي دائمًا جنود العمل في كتيبة البناء داخل الوطن.. فلنرجع بالذاكره قليلاً للوقت الذي اغتالت فيه أيادي الإرهاب الكارهة للتاريخ والتراث مبنى دار الوثائق القومية الكائن بمنطقة باب الخلق، مرت علينا أيام صعبة ونحن نتجول في هذا الصرح العظيم الذى يعد جزءا هاما من ذاكرة وتاريخ المصريين والأمة العربية أجمع، كان دورنا هو حصر آثار الدمار والتلفيات التي أصابت المبنى جراء انفجار مديرية أمن القاهرة، أيام صعبة على من يمضي عمره في البناء،  كنت أتجول في مبنى دار الوثائق وفي قلبى غُصة مما أراه من دمار وخراب، الدمار الذى أصاب الأخضر واليابس وأضر بكل جزء في الدار.


ومن مفارقات القدر أننا حينها كنا بصدد إنشاء مبنى جديد لدار الوثائق القومية؛ لأن المبنيين الآخرين قد امتلآ عن آخرهما، وأصبحت الدولة في حاجة لأماكن إضافية لتخزين الوثائق الهامة وأيضًا معامل لترميم تلك الوثائق، تلك الوثائق التي لا تكذب علينا أبدًا، لا تخضع للآراء والأهواء والانتماءات.. وثائق تسرد حكايات التاريخ وتدعنا نحكم بأنفسنا على الأحداث والمواقف، وكنا ننتظر بفارغ الصبر موعد افتتاح الدار الجديدة الكائنة بمدينة الفسطاط التاريخية العريقة وأثناء انشغالنا بإنشاء وتجهيز مبنى الدار الجديدة، حدث وقتها تدمير لدار الوثائق القومية بباب الخلق، الأمر الذي أصابنا بالحزن والإحباط آن ذاك.


 فبدلاً من أن تُصبح بلدنا تمتلك ثلاثة مقرات لدار الوثائق القومية والبذرة تنمو وتكبر، حدث ما لم نتوقعه أو نتمناه، وهو أننا فقدنا مبنى الدار الكائن بباب الخلق.. الصدمة أخذت وقتها ولكنها لم تؤثر على هدفنا الدائم وهو البناء.. فقط البناء والتعمير حتى ولو كان يوجد الكثيرون هدفهم هو الهدم، فبالحسابات البسيطة سوف نتيقن أننا لو أصابنا الإحباط  والهزيمة النفسية "كدولة ومواطنين" لن تكون لدينا المقدرة على البناء.. فمع كل يد تهدم سوف تكون أمامها الآلاف من الأيادي التي تبني الوطن وتعمر الكون.


وجاء اختيار موقع الدار الجديدة موفقًا بشدة، حيث إنه يقع فى قلب القاهرة وسط المراكز الثقافية والأثرية والدينية، التي تعتبر من العلامات المميزة بالقاهرة، حيث يجاور مبنى الدار الجديد المتحف القومي للحضارة المصرية، والذي يعتبر من أعظم متاحف الحضارة فى العالم، وجامع عمرو بن العاص أول مسجد بُني في مصر وإفريقيا عند دخول الإسلام مصر، وأيضًا مجمع الكنائس العظيمة بمنطقة مصر القديمة، وعلى أطراف مدينة الفسطاط الأثرية أول مدينة أُسست في مصر بعد دخول الإسلام، فهذا الموقع الذي تم اختياره بعنايه ليصبح مقرًا للكيان الذي يحتفظ بذاكرة الأمة وتاريخها على مر العصور. 


ما هي دار الوثائق وما هو الهدف من هذا الكيان؟
يجهل الكثيرون ما هو الدور الذي تؤديه دور الوثائق القومية وما هو الهدف من إنشائها..  تعتبر دار الوثائق المصرية ذاكرة الوطن التي يتم فيها تسجيل وحفظ  كنوز التاريخ على مر الأزمنة والعصور "فحفظ وتوثيق التاريخ يؤسس ويبني المستقبل".



ودار الكتب هي أول مكتبة وطنية عرفها العالم العربي وتضم بين جنباتها مجموعات نادرة من المخطوطات العربية والشرقية، ومن أوراق البردي العربية، والنقود الإسلامية ولوحات الخط العربي وخرائط نادرة، ودوريات كثيرة، هدف آخر هام لوجود دور الوثائق وهو خدمة القراء والباحثين باستخدام أحدث التقنيات العالمية، فالباحثون فى شتى المجالات يلجؤون لدار الوثائق لعمل أبحاثهم والاستفادة من الكنوز المعلوماتية التى بالدار.


تاريخ إنشاء دار الوثائق التاريخية القومية
دار الوثائق القومية المصرية من أقدم دور الأرشيف في العالم أجمع، فقد تم إنشاء الأرشيف الوطني الفرنسي عام 1790، ودار المحفوظات العامة في لندن عام 1798، أنشئت دار الوثائق بالقاهرة عام 1828.


فقديماً كان قسم المحفوظات التاريخية بقصر عابدين هو الكيان المسؤول عن حفظ الوثائق التاريخية، ولكن بعد قيام ثورة يوليو 1952 سعى رجال ثورة يوليو إلى إنشاء أرشيف وطني يحتفظ بالوثائق ويكون متاحًا لكتابة تاريخ مصر القومي بكل عصوره، ولجميع أفراد الشعب، وبات من الضروري استحداث "دار الوثائق التاريخية القومية"،  التي تم إنشاؤها بموجب القانون 356 لسنة 1954م، والذي حدد وظيفتها في جمع وحفظ الوثائق وإتاحتها للباحثين، وتم حينها اختيارالقلعة كمقر لها.


وفي عام 1979م أصدر رئيس الجمهورية القرار رقم 472 لسنة 1979م بشأن "المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وأسلوب نشرها واستعمالها"، والذي نص على أن تحتفظ الجهات الحكومية بوثائقها التي تنتجها لفترة خمسة عشر عامًا، ثم تُنقل بعدها إلى دار الوثائق التاريخية، وبعد إيداعها في الدار تظل محتفظة بسريتها لمدة خمسة عشر عامًا أخرى، ثم يُفرج عنها بعد ذلك للاطلاع عليها من كافة أفراد الشعب.


وبعد ذلك وفي عام 1990م انتقلت دار الوثائق من مقرها بالقلعة إلى موقعها الحالي بكورنيش النيل بالقاهرة، حيث كانت جزءًا من الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 176 لسنة 1993م بشأن إنشاء هيئة مستقلة تضم دار الكتب والوثائق القومية وفصلهما عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.


 توجد بدار الوثائق القومية أكثر من "مائة مليون" وثيقة تتعلق بتاريخ مصر والمنطقة العربية بصفة خاصة والعالم أجمع بصفة عامة، وذلك منذ العصر الفاطمي وحتى وقتنا هذا، وكما تتنوع الوثائق في امتدادها الجغرافي تتنوع في أشكالها أيضًا، فهناك الوثائق المفردة والسجلات واللفائف والملفات والمطويات والخرائط والرسومات الهندسية وغيرها. وجميعها متنوعة الموضوعات في النواحي السياسية، الاقتصادية، العسكرية، الاجتماعية والثقافية، ولذلك نجد أن أهمية دار الوثائق القومية تآتى من التنوع الكبير في الوثائق من حيث الامتداد الجغرافي والتاريخي وشكلها وموضوعاتها وعصورها المختلفة.



المبنى الجديد لدار الوثائق القومية 
دولة بحجم مصر يجب أن يكون لها مكان كبير يحفظ تاريخها المدون في الوثائق المختلفة، ويجب أن يتم الحفاظ علي تلك الثروة القومية من التلف أو الضياع ، خاصة وأن المعدل السنوي الذي يتناسب طرديًا مع عدد مؤسسات الدولة لا يقل عن 8 لـــ 9 ملايين وثيقة سنويًا يجب حفظها، وهو ما يعني الحاجة إلي مساحات للحفظ تزداد بمقدار الزيادة في الوثائق. ولم يعد المبني الحالي بكورنيش النيل يسع ويستوعب المزيد من الوثائق، خاصة أن محتوياته قد وصلت إلي ما يقرب "100 مليون وثيقة"، كما أن هذا المبني ليس به من الأماكن التي تحتاجها الدار لعمليات الرقمنة والفهرسة الإلكترونية، هذا علاوة علي صعوبة التوسع وتنفيذ خطط التطوير المرتبطة بالخدمات التي تقدم للباحثين والدارسين والمستفيدين، والتي تتطور بتطور أدوات العصر، وهو ما يعني الحاجة إلى مساحات إضافية لتقديم هذه الخدمات وبأحدث التقنيات العلمية الحديثة.


وجرى تخصيص مساحة أرض مساحتها حوالى 5 آلاف متر تم إنشاء مبنى الدار الجديد بارتفاع خمسة أدوار، منها ثلاثة أدوار كاملة لحفظ وتخزين الوثائق المختلفة، وفى الأدوار الأخرى مركز لترميم وصيانة الوثائق وقاعة للندوات ومركز للتدريب ومركز للتاريخ الشفهي ومناطق للإدارات الفنية وقاعة للاطلاع علي الوثائق تم تصميمها علي أحدث التقنيات العالمية في إتاحة الوثائق بجميع أنواعها، وأيضًا متحف للوثائق وكافيتريا ومنطقة للخدمات والصيانة.


وعرفانًا بجهود الشيخ الدكتور سلطان القاسمي للمساهمة في إنشاء مبني جديد لدار الوثائق القومية الجديد بالفسطاط، يجب أن نذكر أن ميزانية بناء مبنى الدار الجديد بالكامل " تبلغ حوالى 100 مليون جنيه" تحمّلها سمو الشيخ القاسمى حبًا منه لمصر ولتراثها ورغبة منه فى المساهمة في إثراء الحياة الثقافية بمصر،  وقد وافقت الحكومة المصرية على قبول تلك المنحة، وانتهى الآن إنشاء المبنى المجهز بأحدث التقنيات، وسوف يقوم بافتتاحه رئيس الوزراء ووزير الثقافة وبحضور سمو الشيخ سلطان القاسمي، وأصبح لدينا مبنى جديد لدار للوثائق القومية، وأتمنى الحفاظ عليه وبناء المزيد والمزيد من المشروعات القومية المصرية.