التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 08:19 م , بتوقيت القاهرة

السيد المدير الحمار.. شكرا

كان "عائما في ميّة البطيخ" إن جاز التعبير، يطبق مبادئ "السبهللة" بحذافيرها طول ساعات العمل، كنا نجتهد ونعمل، ونلهث وراء كبار الضيوف من فنانين وسياسيين، ونغطي أحداثا ساخنة أعقبت الثورة، وبدلا من أن يفخر بنا كرئيس قسم يغزل أعضاؤه برجل حمار، لم يكن يظهرنا أمام رئيس التحرير إلا بمظهر القسم المهلهل "اللي شغله على أده"، الحقيقة أنه تحمل تهزيق لا يتحمله بشر، أدامنا وعلى عينك يا تاجر، ولكننا دفعنا ثمن ذلك غاليا، حين أغلقوا القسم برمته، وسرحونا.


كرهته طويلا، طويلا جدا، لم تفلح محاولاته في أعقاب ذلك الحادث المأساوي بأن يلتقينا ويواسينا ويقنعنا بأنه سيساندنا، وسنبدأ جميعا مشروعا نديره نحن ونعمل فيه وما إلى ذلك من الكلام "اللي لا بيودي ولا يجيب"، ولكنني وحين صادفت صورته على "فيس بوك" قبل أيام، واكتشفت أنه لا يزال يعمل في المكان نفسه، تحول كرهي له إلى إشفاق، إشفاق شديد، وأخذت أنظر للأمر من وجهة نظر أخرى.


ربما لم يكن ذلك الرجل سيئا إلى الحد الذي تصورت، بل ربما لم يكن هذا الرجل سيئا أصلا، كل ما في الأمر أنه جمع في "تكنيك" عمله بين حمارين، أولهما حمار الشغل، والثاني، ذلك الذي لا يجد في سبيل المال ولقمة العيش مفراً من أن يدور في ساقية رغبات "صاحب الشغل" وآرائه اللولبية، معصوب العينين.


قبل أربعة أشهر تقريبا، وقفت مع نفسي وقفة محترمة بشأن عملي، عملي ذلك الذي أعشق والذي أعرف أنه يبادلني حباً لا بأس به، وإن كان ينقص ويزيد وفقا لقوانين لا أعرف ولا أريد أن أعرف عنها شيئاً، رحت أفكر في تلك العلاقة التي تجمع بيننا، ينهكني تماما ويسرق من يومي ساعات وساعات، وأنا على مكتبي، وأنا في المترو، ناهيك عن "السكريبتات" التي أتعهد عن طيب خاطر أن أعدها من البيت، ذلك في مقابل أن يمنحني أشياء أنشغل بها عمّا يضايقني أو ما يمكن أن يضايقني، متسلحة في ذلك بدفعة معنوية تكفلها لي تلك النظرة في عيون الزملاء على أنني الموظفة المثالية، وقفت مع نفسي وقفة محترمة أسألها، هل ينظر لي الجميع هكذا فعلا ؟ وكانت الإجابة صادقة مروعة.


قد أكون في نظر كثيرين، حمارة شغل.


صادم أن تشعر أن البعض يراك هكذا، ولكن الأكثر سوءا أن تعترف بهذا لنفسك، أن تكتشف أنك قد ارتضيت لها تلك الساقية، معتقداً أن الثواب يُقدّر بعدد "اللفات"، ثم تستغرب بعدها لمَ لا يقدرك ذاك، ولمَ لا يعترف الآخر بما قدمت، وتتساءل عن دور لا يأتي أبدا في ترقية، متغافلا أن ذلك العدد اللانهائي من الساعات التي تقضيها في "الشغل"، ثم العدد اللانهائي أيضا من الساعات التي تقضيها في التفكير في "الشغل"، قد يكون بعيدا تماما عن "التارجت"، وهو ما يجعل شغلك برمته، مالهوش أي تلاتين لازمة، ويجعلك كذلك في نظر الجميع بعد فترة طالت أو قصرت، سواء كنت مرؤسا، أو رئيسا.


"أهم من الشغل، ظبط الشغل"، تلك عبارة كنت أكرهها جداً، لا أعرف لمَ ارتبطت في ذهني بالتقاعس و"المرقعة" في إنجاز الأعمال بدعوى "ظبطها"، ربما لأنها كانت شعار ذلك المدير في الحياة، الذي شنف به أذاننا عشرات المرات يوميا على مدار تسعة أشهر، ولكنني اعترفت مؤخرا بأهميتها، وبأنه لو أدرك أهميتها يوما، لمَ كانت هذه حالنا و حاله.


أن تكون مديراً، تلك ليست رفاهية، خاصة في بلد أدمن شعبه لعبة الشماعات، وصارت فكرة أن "كله بيلبس كله" دستورا وقانونا خفيا يحكم العمل في أغلب المؤسسات، أن تكون مديرا يعني أنك تملك لمسة سحرية لولبية تُحول فسيخ ما يقدمه مرؤوسيك إلى شربات حتى وإن كنت "ستولع فيهم بجاز"، بعد ذلك حين يقفل عليكم باب قسم واحد، أن تكون مديرا يعني أن تمتلك قدرات خارقة على أن "تهندل" وتطبطب وتدلع وتمتص غضب هؤلاء وهؤلاء وتحوله بفضل عصا طاقتك الإيجابية السحرية إلى ما يصب في مصلحة العمل، ولم يكن هذا الرجل كذلك، أبدا.


أن تكون مديرا يعني أن تحمل القفة أم ودنين وحدك، وأن تتحمل أن "تخر" على دماغك دون أن تبحث عن أحد موظفيك لـ "تلبسها له"، يعني أن تكون شجاعا جسورا دون بجاحة وافترا، يوم تصبح مديرا يعني أنها خطوة افضل في مسيرتك المهنية، ولكنها تبقى خطوة، لا و لن تعني أبدا أن "تتنطط على خلق الله"، أو أن تتصور أنك ذلك يمنحك الحق أن تنهي  وتأمر وتحجم كل من حولك، لمجرد أنك تتصور أنك صرت في مصاف الآلهة.


السيد المدير، في أي حتة، وسواء كنت حمارا مع احترامي أو لا..


تعرف جيدا أن المركب أم ريسين تغرق، وها أنا أقول لك، واعتبرني أحذرك، أن الأسرع غرقا من ذلك هي المركب التي لا ريّس لها، فاحترس قبل أن تغرقها يرحمنا ويرحمك الله.


سيدي، كل الأشياء ترحل، المناصب، الأشخاص، شيئان فقط يبقيّان، زميل ستدور الأيام وقد تجده مديرك ذات يوم، وحينها لن يغفر لك أبدا، وصورتك على فيس بوك، التي لا يرضيك أبدا وأنت الرجل المخضرم، أن يراها أحد المرؤوسين، فيقول بعد تنهدية طويلة، "الله .. كان..."


أخيرا، لو لم يكن هذا الرجل "حمارا"، ما أعطاني فرصة أعتبرها فرصتي الاحترافية الأولى، لذا فأنا وبغض النظر عن كل وأي شيء، أقول له، شكراً.