التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 03:55 م , بتوقيت القاهرة

الحب.. وأشياء أخرى

لا أتذكر موضوع الدرس ولا السنة الدراسية، ولكنني أتذكر جيدًا المُدرسة. كانت "ميس نهاد"، تدرس لنا "المواد الاجتماعية"، وهي مادة تخلط ما بين التاريخ والجغرافيا والمعلومات العامة المسلية. وكانت تصر أن تشرح لنا دروس التاريخ في سياق جغرافي. كانت "ميس نهاد" أول من علمني الجيوبولتيكس Geopolitics.


والجيوبولتيكس، أو الجيوسياسة، هي دراسة التأثير الجغرافي (سواء الجغرافيا الطبيعية أو الإنسانية) على العلاقات السياسية الدولية. الجيوبولتيكس هي مفتاح فهم الماضي استقراء المستقبل. الجيوبولتيكس تفسر العالم! وبما إنها تفسر العالم فيمكننا أن نستخدمها في تفسير العلاقات بين الناس.


أنت دولة ومن حولك دول. علاقاتك بمن حولك تحكمها "المصالح". سيعترض البعض من باب أن "المصلحة" فكرة دنيئة. لكن في الحقيقة أن "المصلحة" مصلحة. المصلحة هي "الخير"، المصلحة هي "الصح"، المصلحة هي كل ما يعود على الفرد (أو الجماعة) بالنفع. سواء نفع مادي أو معنوي، وسواء كان نفعا حاليا أو مؤجلا (إن كنت من المؤمنين بالآخرة).


الحب "مصلحة" أو منفعة (أو حاجة حلوة وخلاص) يسعى إليه الكثيرون. الحب هنا هو "السياسة الدولية" التي يمكن فهم أسباب نجاحها أو فشلها بقراءتها في سياق جغرافي.


نحتاج أولًا لتعريف الجغرافيا وهي علم دراسة الأرض وخواصها وسكانها وظواهرها الطبيعية. وبذلك تصبح "جغرافيا الأشخاص" هي سماتهم سواء الشكلية أو النفسية أو الاجتماعية.


جيوبولتيكس الحب، إذن، هي قراءة تأثير سماتك الشكلية والنفسية والاجتماعية على علاقاتك العاطفية.


لونك، وطولك، ووزنك، وجنسيتك، ودينك، وسنك، ومركزك المالي، وتاريخك العاطفي، وترتيبك بين أخواتك، ومتانة روابطك العائلية، وتعليمك، وخلفيتك الثقافية، ومركزك الاجتماعي.. كلها من عوامل "الجغرافيا الشخصية" التي تلعب دورًا مهمًا في تحديد شكل ومسارات علاقاتك. تحدد جغرافيتك "دورياتك" و"دوائرك".


الدوري هو الفئة التي تنتمي إليها. بغض النظر عن موقفك من "الطبقية" كفكرة، لكن ينقسم الناس كما الدول لفئات. تنقسم الدول لعالم أول وعالم ثالث، دول نامية ودول متقدمة، دول ديموقراطية ودول ديكتاتورية، دول غنية ودول فقيرة. وتنقسم الناس لفئات اجتماعية، وفئات مادية، وفئات فكرية، وفئات مذهبية دينية، وحتى في بعض الأماكن لفئات قبيلة وإثنية.


كل شخص تحدد جغرافيته الدوريات التي ينتمي إليها. لأن الفئات التي ينتمي لها الأشخاص ليست تقسيمات مطلقة،. فصاحب المركز الاجتماعي ليس بالضرورة أن يكون من أصحاب الأموال. وأصحاب الأموال ليسوا بالضرورة من أصحاب الأفكار. وأصحاب الأفكار ليسوا بالضرورة من أصحاب الدين .. وهكذا.


الدوائر هي نطاق تحركاتك وعلاقاتك بغض النظر عن الدوريات التي تنتمي إليها. يتحرك الأشخاص في دوائر تشمل دورياتهم ودوريات غيرهم كجزء طبيعي من الحياة الاجتماعية.


ينشأ الحب نتيجة تقاطع الدوائر. فيقع في الحب المختلفون في الأفكار والخلفيات الاجتماعية والمادية وحتى الدينية. تتقاطع الدوائر فتسقط الدوريات من الحسبان. ويُرفع شعار الحب يصنع المعجزات.


والحب بالفعل معجزة تصنع معجزات، على الأقل في البدايات. فتتفق المصلحة فتُخلق أرضية مشتركة للتفاهم. يتنازل كل طرف عن جزء من جغرافيته في نظير "المصلحة" ويعيشون في تبات ونبات ويخلفون "صبيان وبنات"، حتى يدركهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.


أو هكذا توعد البدايات. لأن جزءا من الجغرافيا الشخصية هو انتماؤك لمجتمعك ومتانة علاقتك به. وكلما زاد ارتباطك بمجتمعك  زاد حجم تأثيره على علاقاتك (فرص التدخل الخارجي). والتدخل الخارجي يؤدي إلى انهيار العلاقات كما يؤدي إلى انهيار الدول.


يظن البعض أن الاختلافات الكلاسيكية الحادة طراز "الشاطر حسن وبنت السلطان" هي أكثر نماذج تعارض الدوريات شيوعًا. في حين أن علاقات اختلافات الدوريات الحادة نادرة، لأن اجتماع الشاطر حسن مع بنت السلطان في دائرة اجتماعية تسمح بسياق انجذاب يؤدي إلى حب معجزة في حد ذاتها.


تنشأ مشكلات الدوريات والدوائر حين لا يمكنك أن تحسم نظريًا بأن هناك فروقا تستحيل معها العلاقة. كأن يتشارك الطرفان الأفكار والدين والمستوى المالي والاجتماعي. ولكن يفرقهما تفصيلة بسيطة تتعلق بأن أسرة أحدهما من أصول ريفية متمسكة بالتقاليد وأسرة الآخر Open minded  .


تنشأ المشكلات حينما يتدخل عامل انتمائك لمجتمعك في العلاقة. ففي حين يتحدى الشاطر حسن وبنت السلطان مجتمعيهما وربما ينفصلان عنه تمامًا فتنجو علاقتهما.  ستسقط معجزة حبك أمام تدخلات حماتك التي تكره أصولك الريفية، أو أمام سم العقارب التي تبثه أخوات زوجك لإنك "ماشية على حل شعرك" وزميلك عمل لايك لصورتك على الفيسبوك.


فالحب يصنع المعجزات ولكن حتى للمعجزات شروط وأحكام!