تأملات مختلفة في "أحلام نجيب محفوظ"
عرفتُ الكاتب الصحفي "منير مطاوع" في أوائل السبعينات من القرن الماضي، حيث كان يعمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "صباح الخير".. وجمعت بيننا أحزان هزيمة (67) ومشاعر الإحباط واليأس والضياع.. وأشعار "نجم" و"أمل دنقل".. وكنا نجلس الساعات الطوال في مقهي "ريش" تجمعنا أضغاث أحلام في عبور إلى نصر يُعيد لنا كرامتنا المُهدرة وأرضنا المغتصبة.
ثم هاجر "منير" فجأة إلى "لندن" ليعمل هناك.. ولم يعد.. وكان يهاتفني بين الحين والآخر.. ثم انقطعت أخباره عني.. وإذا بي وأنا أتصفح العدد الأخير من مجلة "صباح الخير".. يطالعني مقال له أرسله من "لندن" بعنوان قراءة جديدة "في أحلام فترة النقاهة" آخر كتابات كاتبنا الكبير "نجيب محفوظ"، والمقال هو الحلقة الرابعة من تلك القراءة الجديدة للأحلام.. وتقدمها المجلة بملاحظة هامة.. هي أن كل قراءة تحتوي على الجديد في التحليل والتصور والرؤية والمغزى فهي "بللورات" تتلألأ بالمعاني والأفكار والدلالات.. وتعدد المستويات في تذوقها وتلقيها وتفسيرها وتأويلها.. وهذا من أسرار عبقريتها وعبقرية مبدعها.
وتعدد المستويات يعني المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري والفلسفي.. وهذا هو شأن معظم مؤلفات "نجيب محفوظ" والسبب الرئيسي في خلودها وعبورها لحواجز الزمان والمكان حيث تصلح للتعبير عن كل عصر.
وتنشر المجلة توضيحًا بشأن الأحلام وهي أننا لم نطلع سوى على (230) حُلمًا.. مضافًا إليها (6) أحلام "عيد الميلاد".. و(3) أحلام نشرت في العدد الخاص من مجلة "ضاد" بعد أيام من رحيله.. فإذا أضفنا إليها (17) حُلمًا تضمّنتها مجموعة "رأيت فيما يرى النائم" فيكون مجموعها (253) حُلمًا منشورة.
ونحن نعرف أن هناك أحلامًا أخرى كثيرة كتبها "نجيب محفوظ" ولم تنشر بعد.. وأعلن أحد رفاقه "الحرافيش" أن مجموع الأعمال قد يصل إلى (500) حُلم، ما يعني أن ما لم ينشر يقارب مجموع ما نُشر.. وهذه ثروة فنية أدبية تركها كاتبنا الرائد لأمته.. وتناشد المجلة عائلته الكريمة أن تستجمع المخطوطات وتنشرها.. فهذا واجبها تجاه ذكراه وأعماله.
والحقيقة أني قرأت الأحلام عند نشرها في مجلة "نصف الدنيا" مزينة برسوم الفنان الكبير "محمد حجي" الذي عبر عن محتواها- خاصة الفلسفي- بجمال وعمق.. وكانت الكاتبة الكبيرة "سناء البيسي" هي أول من تنبّهت لأهميتها وأهمية نشرها أسبوعيًا بالمجلة بعد فك شفرات الخطوط والحروف الغامضة وتوضيحها، فقد كانت يد أستاذنا متأثرة بعد الحادث الأثيم الذي اعتدى فيه مَأْفون عليه.
ونشرت "سناء البيسي" الحُلم بخط "نجيب محفوظ" إلى جوار الحُلم المطبوع.. بعدها هالني وأثار دهشتي مرور السنوات دون أن تظهر كتابات النقاد وتحليلاتهم للأحلام، وضايقني هذا التجاهل غير المبرر وغير المفهوم.. حتى فوجئت بمقال "منير مطاوع" الأخير.. وأسعدني ان تكون لمقالاتي المتعددة عن هذا التجاهل تلك الاستجابة الأخيرة.
في الحلم رقم (202) يكتب الأستاذ:
"تأبطت الجميلة الشابة ذراعي ووقفنا أمام بياع الكتب الذي يفرش الأرض بكتبه.. ورأيت كتبي التي تشغل مساحة كبيرة.. وتناولت كتابًا وقلبت غلافه.. ففوجئت بأنني لم أجد سوى ورق أبيض.. فتناولت كتابًا آخر.. وهكذا جميع الكتب لم يبق منها شيء.. واسترقت النظر إل فتاتي فرأيتها تنظر إليّ برثاء".
يرى "منير مطاوع" أن هذا الحلم يعبر تعبيرًا شديد الإيجاز عن فزع كاتب مهم من أن تضيع أفكاره ودعواته وإبداعاته سُدى.. وفتاته هنا هي مصر.. فهي من كان يكتب من أجلها.. من أول سطر وحتى آخر حُلم.
وأنا أرى تفسيرًا آخر لا ينفي تفسير "منير"، بل يضاف إليه طالما أننا اتفقنا على تعدد مستويات الرؤية.. وهو يتصل بالمغزى الفلسفي للنص. فالحلم هنا يجسد أيضا معاناة الإنسان في وجود عبثي.. ورحلة بحث عدمية عن معنى ولا جدوى هذا الوجود.. وما يتصل به من أسئلة بلا إجابة عن الحياة والموت والمصير والفناء والتاريخ الذي تقلب صفحاته الخاوية فلا تهدأ نفوسنا بل تزداد فزعًا والتياعًا وحيرة والصفحات الخالية تشبه ذلك الانتظار القاتل.. والمُرهِق للحقيقة التي سوف يدركها بائسان ينتظران "جودو" الذي يملك مفتاح السر.. ولكنه لا يحضر وذلك في مسرحية "بيكت" الشهيرة.. في انتظار "جودو".
ويبدو الحلم رقم (104) والذي يصفه "منير" باعتباره ينتمي إلى الواقعية السريالية وكأنه يكمل الحلم السابق فيما يتصل بموقف الإنسان "المنتظر".. يقول الحلم رقم (60).
ذهب يسأل عن السيدة صاحبة الشقة.. هل هي "مصر"؟! فقيل له إنها ما زالت في الحج ولم يعرف بعد موعد عودتها.. ويمر بحجرات الشقة.. هل هي الكيانات والتجمعات السياسية والأحزاب؟!.. وعند فتح كل باب رأى جماعة حول مائدة مستديرة غارقين في مناقشة حادة.. ولكني لم أعرف أي موضوع يتناقشون من اختلاط الأصوات وتداخلها ولم أرغب في الدخول في أي غرفة مفضلا انتظار السيدة صاحبة الشقة.. ولفتت نظري إحدى الفتيات أن السيدة سوف تتأخر بضعة أيام.. ومن يأسي أجبتها بعد أن اشتركت في المناقشات دون جدوى أنني أُفضل انتظار عودة السيدة".
إنه الإصرار على المعرفة.. معرفة الحقيقة.. وكأنه "يوجين" يحمل مصباحه باحثا عنها مهما أضناه تعب المشوار.. وضعف الأمل.. وعبثية الوجود.