التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:35 م , بتوقيت القاهرة

الإعدام الجماعي عقوبة الخوف الجماعي

(1)


جماعةٌ من البشر يحتمون بمظلة محطة في الطريق خوفًا من رذاذ المطر والهواء البارد. يكاد الطريق يخلو من المارة مع اشتداد الرذاذ، لكن يندفع من أحد الشوارع الجانبية رجل يركض كالمجنون ويختفي في شارع جانبي آخر. يركض في إثر الرجل مجموعة تتصايح "أمسكوا اللص". يُجبر المطاردون المطارَد على الخروج للطريق الواسع مرة أخرى ويوسعونه ضربًا أمام أعين الواقفين تحت المظلة. يلاحظ الواقفون تحت المظلة محتمين من المطر أن هناك شرطيا يقف على مقربة دون أن يتدخل، بل يدير وجهه للناحية الأخرى.


ينهمر المطر بغزارة وتتوقف الجماعة المطاردة عن ضرب اللص. يلاحظ المراقبون من تحت المظلة نقاشًا بين اللص وضاربيه. يبدو لهم وكأنه يخطب في حرارة دفاعًا عن نفسه. لا يسمعون الخطاب لبعد المسافة وصفير الريح. لا يجدون تفسيرًا لعدم تدخل الشرطي لإنهاء العراك ثم النقاش غيرَ أن ما يحدث أمامهم ليس سوى مشهد سينمائي. يلفت نظر المحتمين من المطر سيارتان تنطلق إحداهما في إثر الأخرى بسرعة جنونية. تفرمل السيارة الأولى فجأة فتصدمها الثانية من الخلف لتنقلبا معًا محدثتين انفجارًا هائلاً قبل أن تشتعل فيهما النيران. يزحف قائد إحدى السيارتين خارجها غارقًا في دمائه قبل أن يستلقي جثة هامدةً في وسط الطريق. يزداد تعجب الواقفين تحت المظلة من عدم تدخل الشرطي الذي يراقب المشهد وكأن الأمر لا يعنيه. شعروا بهول الكارثة "لكن أحدًا لم يبرح مكانه خشية المطر".


تحول المطر إلى سيل وقعقع الرعد. رأى الواقفون تحت المظلة اللص ــ الذي انتهى من خطابه ــ وقد تجرد من ثيابه ملقيًا إياها فوق حطام السيارتين. أخذ يرقص في رشاقة عاريًا بينما أخذ من كانوا يطاردونه منذ برهة يصفقون له في حرارة. عادت فكرة أن ما يحدث ليس سوى مشهد تمثيلي لتسيطر على أذهان الواقفين تحت المظلة يراقبون في دهشة وخوف. استراحت نفوسهم لهذا التفسير خاصةً مع وجود الشرطي الذي لم يبدِ اهتمامًا، بل أن البعض أبدى إعجابه بالبراعة الفنية التي يُنفَذ بها المشهد.


بعد قليل ظهر في نافذة رجل كامل الزي أشار لامرأة أنيقة في نافذة مقابلة لتلاقيه في الطريق. بعد قليل ظهرا سويًا في عرض الطريق ليتجردا من ثيابهما ويمارسان الحب فوق حطام السيارتين وأمام عيون المحتمين من المطر. أي فضيحة تلك التي تقع أمام أعينهم ويكتفي الشرطي إزاءها بإشعال سيجارة!


قطع دهشةَ الواقفين مقدمُ قافلة جمال يقودها مجموعة من رجال ونساء من البدو. نصبوا خيامهم في الطريق وربطوا الجمال لأسوار البيوت مقيمين معسكرًا قريبًا من حلبة اللص الذي كان منهمكًا لازال في رقصه. تبعت القافلة البدوية قافلة من سيارات سياحية مليئة بأجانب. غادر الأجانب السيارات وأخذوا يتطلعون لكل ما حولهم في "نهم" دون مبالاةٍ باللص الراقص أو المتضاجعَين أو حتى المطر المنهمر بغزارة. ثم يصل عمال بناء كثيرون تتبعهم لوريات ضخمة محملة بمواد البناء ليشيدوا سريعًا قبرًا رائعًا وسريرًا حجريًا كبيرًا. رص العمال جثث ضحايا حادث السيارتين على السرير وأحاطوها بالورود، ثم حملا الرجل والمرأة المتضاجعين فأودعوهما القبر حيّين وسدوا فوهته بالتراب. ركبوا بعد ذلك اللوريات وغادروا المكان وسط ذعر الواقفين تحت المظلة.


ليس هذا مشهدًا تمثيليًا بل هو كابوس مخيف.. هكذا ظن المحتمون من المطر وقد تعالت بينهم أصوات تنصح بمغادرة المكان فوراً، لكن بعضهم أصر على ضرورة انتظار النهاية السعيدة. لازالوا يؤمنون أن ما يحدث أمام عيونهم ليس سوى تمثيلية. لكنهم فوجئوا برجل يرتدي روب القضاء يتربع فوق القبر باسطًا بين يديه صحيفة يتلو منها وكأنه ينطق بحكم. لم يميز كلامه أحد بسبب الضوضاء التي نشبت نتيجة لمعارك بين البدو وبعضهم، وبين الخواجات وبعضهم، ثم بين البدو والخواجات. علا التصفيق والصخب وأخذ عرايا كثيرون يرقصون ويمارسون الحب حول القبر. أخذت النشوة اللص فأخذ يتفنن في الرقص.


لاحظ الواقفون تحت المظلة رجلا يراقب المشهد بمنظار مكبر وتبدو عليه علامات الرضا. سمعوه وهو يغمغم "استمروا بلا خطأ وإلا اضطررنا لإعادة كل شيء من البدء".. تيقنوا أنه المخرج وساد بينهم نوع من الطمأنينة. حاولوا سؤاله عما يحدث لكنه أشاح عنهم بوجهه وحاول الاختفاء مع مقدم رجال بدوا وكأنهم يبحثون عنه.


زاد تعجب الواقفين الذين ترددوا في الذهاب. لابد أنهم سيستدعون للشهادة عن الجرائم التي ارتكبت أمامهم. استغاثوا بالشرطي الذي جاءهم متململاً، لكن دون أن يغادر أي منهم موقعه تحت المظلة. سألهم الشرطي عن سبب وقوفهم بينما غادر الجميع. لفتوا انتباهه للجثث فلم يكترث بل سألهم عن بطاقاتهم. سألهم الشرطي ساخرًا عن سبب اجتماعهم وهو يتحقق من شخصياتهم. 
ــ لا يعرف أحدنا الآخر.
ــ كذبة لم تعد تُجدي
قال الشرطي ذلك قبل أن يسحب بندقيته ويطلق الرصاص عليهم جميعًا ليسقطوا جثثًا تحت مظلتهم.


(2)


في قسوة بالغة تدين قصة "تحت المظلة"، التي "تبدو" عبثية، الخوفَ عندما يتمكن من العقل الجمعي ليشل حركته. هذا العقل الذي يلوذ دومًا بما يعرف (المظلة) هربًا من مواجهة بوادر الخطر (المطر)، فيترك الخطر يتفاقم أمام عينيه حتى يقضي عليه هو في النهاية. يشاهد العقل الجمعي في سلبية مفجعة كيف يتحول اللص إلى خطيب وزعيم، وكيف يصفق للخطيب ذات الناس الذين كانوا يطاردونه ويتهمونه باللصوصية منذ برهة. يحاول العقل الجمعي أن يقنع نفسه أن ما يقع أمامه من صراع عنيف على السلطة (سباق السيارتين) ليس سوى اتفاق (تمثيلية) هناك من سيتدخل في الوقت الملائم لحسمه بلا خسائر. أكثر ما يثير حفيظة العقل الجمعي هو ممارسة العاشقين للحب أمامهم، هذا فقط ما يصفونه بالفضيحة. مع ذلك يكتفون بالإدانة كما يكتفون بإبداء الدهشة أمام صراع الهوية والمصالح (البدو والخواجات). لا شأن للعقل الجمعي بالبدو الذين يحاولون العيش في وسط الطريق كأنهم في صحراء على مسمع ومرأى من اللص الخطيب، ولا بالخواجات الذين يتطلعون "بنهم" تجاه كل ما يحدث بحثاً عن مكاسب وسط الفوضى. تلك الفوضى لا تثير في العقل الجمعي أي رغبة للتدخل لإنهائها فتلك مهمة "الشرطي". ومدفوعاً بذات الخوف من المواجهة يصمت العقل الجمعي عن دفن العاشقين حيين في القبر المشيَد، فأفضل وسيلة لمجابهة "الفضيحة" دفنها كأنها لم تكن. لا ضرورة لفهمها أبدًا. كذلك لا مانع من وضع المتصارعين على السلطة والذين قضوا نحبهم في السباق على السرير المزين، فالعقل الجمعي بحاجة دومًا لأبطال يشيد بهم. لكن لا أحد يلتفت للقانون وضرورة تطبيقه إحقاقًا للحق وإنجازًا للعدالة (الرجل في روب القضاء الذي لا يسمعه أحد). حتى ذلك الرجل الغامض (الفساد الواضح المتكسب من الوضع ) الذي يراقب المشهد سعيدًا بما يحدث يخشى العقل الجمعي عن مواجهته والقبض عليه. يكتفي الخائفون باعتبار هذا العابث مجنوناً أو مخططًا بارعًا. الإدانة أو الإشادة إحداهما تكفي لإبراء الذمة. لم يحاولوا التغيير ولم يحاولوا الهروب من المشهد، إكتفوا بالمشاهدة. يظن العقل الخائف المذعور أن هناك قوة غامضة ستتدخل في الوقت المناسب لإنقاذه (الشرطي). هذا الشرطي قد لا يكون بالضرورة رمزٌ للدولة وهيبتها بقدر ما هو رمزٌ للتاريخ وقسوته. لا يمكن للعقل الخائف السلبي أن يحتمي بالتاريخ. التاريخ لا يبالي بل فقط يراقب ما يحدث. عندما استغاث السلبيون الخائفون بالشرطي سألهم عن سبب تواجدهم معاً فأجابوا أن لا علاقة تربطهم ببعضهم البعض. العقل الجمعي المذعور من المواجهة لا يملك إطارًا نظريًا يواجه به أسئلة التاريخ. يقيم التاريخ في سخرية وقسوة حد الردة التاريخية على من يصر على الخوف من مواجهة الواقع بكل عبثيته


(3)


"تحت المظلة" قصة قصيرة تتصدر مجموعةً قصصيةً بذات العنوان صدرت عام 1969. لكن هناك تنويه في مقدمة المجموعة أن قصصها قد كتبت في الفترة بين شهري أكتوبر وديسمبر من عام 1967. ذلك العام الذي شهد الهزيمة التي جاءت كإعدام جماعي للنظام السياسي وأتباعه ومعارضيه، وكذلك للوعي الجمعي الذي استسلم للخوف ولاذ بأوهام الزعامة والتاريخ والتقدم والتحرر. تلك الهزيمة التي تنبأ بها المؤلف في أعمال سابقةً له كالشحاذ (1965) وثرثرة فوق النيل (1966) وميرامار (1967).


المؤلف بالطبع هو نجيب محفوظ.. الكاتب الذي لجأ لأسلوب الرمز ليواجه طغيان دولة الزعيم الرمز. تلك الدولة "المظلة" التي قامت على أكتاف الخائفين من مواجهة الحقيقة التاريخية ثم انهارت فوق رؤوسهم في عبثية مقززة.