3 مواقف وحليم.. فرقا بين الأبنودي وأم كلثوم
"لا أتصور أننى ممكن أضيع ساعتين عشان أسمع أغنية لأم كلثوم وأفضل أن أقرأ كتابا" جاءت هذه الكلمات على لسان الخال عبد الرحمن الأبنودي، وعبر من خلالها عن عدم انتمائه لمدرسة عشاق كوكب الشرق، التي تقدر بالملايين في مصر والعالم العربي.
بداية العداء
وكانت البداية عقب نجاح أغنية "تحت الشجر يا وهيبة"وحسبما روى بنفسه للراحل خيرى شلبي، فوجئ الأبنودي بمستشاريها يتحدثون معه عن ملامح الأغنية المطلوب منه كتابتها، فطلب الاستئذان في الانصراف حتى قبل جلوسة مع أم كلثوم.
وقال ساخرا للمستشارين: "أصلى مجبتش العدة معايا"، وخرج من الفيلا مزهوا بما فعله، رغم أن الكتابة لكوكب الشرق وقتها كانت حلما للكثيرين من الشعراء الكبار، وهو ما لم يقبل به الأبنودى الشاب وقتها.
الواقعة الثانية
عندما جاء بليغ حمدي إلى الأبنودي وهو في غاية السعادة، وقال له: "افرح يا عم.. أم كلثوم هتغنيلك"، فردّ الأخير بهدوء: "هتغنيلى إيه؟"، فقال الأول فرحا: "بالراحة يا حبيبى".
فرد الأبنودى ساخرا: "بقى أم كلثوم هتغنى أغنية اسمها بالراحة يا حبيبي إنت اتجنيت ولّا إيه؟!، صداقتنا كوم والأغنية دى كوم، أم كلثوم عايزة تغنى ليا أكتب أغنية تليق بيها وبيَّا وبيك"، ليرد بليغ مندهشا: "طب أنا دلوقتى أقول لأم كلثوم إيه؟!"، الأبنودى: "قول لها هاعمل حاجة تليق بيكي".
رفض الأبنودى رفضا قاطعا، وبرر ذلك قائلا:"هذه الأغنية واحدة من الأغانى المسلية التي كنا نكتبها لإذاعة الكويت حتى تظل في الظل بعيدا عن الأضواء، وكان الأبنودى يرى أن كلمات هذه الأغنية أقل من قيمة ومكانة أم كلثوم التي كان يودّ في أول تعاون بينهما أن تكون في أغنية تليق بمكانتهما، وتضيف إلى رصيدهما.
لم تغفر أم كلثوم للأبنودى هذه الواقعة، وشعرت أنه يرفض الكتابة لها، خصوصا أن الأبنودى في ذلك التوقيت كان قد وصل إلى أعلى هرم النجومية مع عبدالحليم حافظ.
الواقعة الثالثة
لم يكتفِ الأبنودى بما فعله في المرات السابقة لكنه عاد وكررها، وتعود هذه الواقعة عندما كان الأبنودى يجلس مع عبدالعظيم عبدالحق في بيته حين قامت ثورة اليمن، وكان الاثنان يقومان بعمل تترات المسلسلات القديمة الرائدة، وفى أثناء تناول طعام العشاء قال له: "ما تعملّى كلمتين عن ثورة اليمن"، فكتب إرضاء له أغنية.
وفى اليوم التالى، في أثناء زيارة الأبنودى لصلاح جاهين، أعجبته الأغنية ونشرها في "مربعه" في جريدة "الأهرام"، وبعدها تلقى الخال اتصالا من وجدى الحكيم، وطلب منه أن يأتى سريعا إلى مبنى الإذاعة، وحضر الأبنودى والتقى عبدالحميد الحديدى مدير الإذاعة، وعلم منه أن أم كلثوم تريد أن تغنى كلماته، فاشترط الأبنودى الحصول على موافقة الملحن عبدالعظيم عبدالحق صديقه، واتصل به وطلب منه أن يتنازل عن الأغنية لأم كلثوم، فرفض واشترط أن يقوم بتلحينها لها، فصُدمت أم كلثوم عندما علمت بما حدث، وقالت "يعنى أنا في مقارنة مع عبدالعظيم".
مقاطعة بسبب حليم
حدث ما جعلها تعيد تفكيرها للمرة الثالثة، ففى أثناء حرب 5 يونيو كان أغلب المطربين والمؤلفين والملحنين يجتمعون داخل مبنى الإذاعة، فعبدالحليم وبجواره أم كلثوم وعبدالوهاب وفايزة ونجاة، ومعهم كمال الطويل وبليغ حمدى والأبنودي، وغيرهم من نجوم الصف الأول فى الغناء والتلحين والتأليف فسمعَتْ سومة عبدالحليم يُدندن: "ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار ابنك يقولك يا بطل هاتلى انتصار"، وقررت أن تغنى هذه الكلمات، وقالت لكمال الطويل: "أنا عايزة أغنّى الأغنية دى".
وأرسلت الطويل إلى الأبنودى الذي رد عليه قائلا: "دى تالت مرة أم كلثوم تعمل فيّا الحركة دى.. وعموما أنا ماليش دعوة روح قول لعبدالحليم" إذا كنت لم أضح بعبدالعظيم عبدالحق هل معقول أضحِّى بعبدالحليم ،يعني أخش أطلع عبد الحليم من الاستديو علشان تخش هي تغني الأغنية، وأنت جاي تلبسني العمة، إيه اللي جابك هنا، فجري بين الاستديوهات" وذهب الطويل وعاد إلى أم كلثوم التي قررت ألا تتعاون مع الأبنودى أبدا.
الأبنودى قطعًا يعرف قامة وقيمة أم كلثوم حتى لو كان لا يحبها، فهى قيمة كبيرة لا يمكن تجاوزها أو التقليل منها، لكن ربما الخال الصعيدى لم يكن محبا لغرور كوكب الشرق عن الذهاب إليه والحديث معه، وأنها تريد أن تأمر فتُطاع، وهو ما رفضه الخال، حتى لو رأى البعض أنه من حقها أن تضع نفسها فى المكانة التى تراها، وألا تقبل المقارنة بأحد أو المنافسة مع أحد.
الأبنودى وجد نفسه مع عبدالحليم وقبلها مع محمد رشدى، وقد التقطته أم كلثوم بذكائها وحسها الفني حين لمع معهما، ووجدت عنده ما لم تجده عند غيره؛ لذلك حاولت معه مرة واثنتين، لكنها فشلت، ولم تستطع أن تجد معه أرضية مشتركة، وربما يكون قرب الأبنودى الشديد من عبدالحليم سببا كافيا لابتعاده عن أم كلثوم، فربما كان من الصعب أن يجتمع الاثنان فى قلبه وعقله.
لكن هذه طبيعة الخال، فهو لا يحب أن يتحدث إلا مع وعمن يحبهم، ولا يهوى الحديث عمن يختلف معهم وعنهم، ويفضل دائمًا أن يظل يتحدث عن جمال عبدالناصر، وعبدالحليم حافظ، ولا يود الحديث عن أنور السادات، وأم كلثوم ويتحدث عن صلاح جاهين ولا يرغب فى الحديث عن أحمد فؤاد نجم.
هذه قناعاته التى لا يغيِّرها، لأنه لا يريد أن يَجرح أحدا أو يُجرِّح فى أحد حتى لو كانت حكاياته مع مَن لا يهواهم أمتع ممن يهواهم، لذلك أقرب الحكايات إلى قلبه حكاياته مع عبدالحليم حافظ، وتحديدا تلك الحكاية!
كان الجالسون: الموجي وبليغ وكمال الطويل ومرسي جميل عزيز ونبيل عصمت وجلال معوض ومجدى العمروسي ووجدى الحكيم، وراح الأبنودى بلسانه السليط ينال من أغنيات آخر أفلام العندليب، وفجأة قال عبدالحليم: يا أستاذ أبنودى رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.. أنت راجل جميل فى الأغاني الشعبية والعاطفية الخفيفة والوطنية، وملكش دعوة بالأغانى الكلاسيكية.
الأبنودى: هذه ليست أغاني كلاسيكية.. دى كيمياء.. تضع مادة على مادة تعطينى مادة.. بمعنى أن الذين يكتبون هذه الأغانى لا يحسّونها.
عبدالحليم: يا أستاذ دول أساتذة كبار وأنت ماتعرفش تكتب زيّهم!
الأبنودى: أنا مأرضاش.. مش مأعرفش.. ولو كنت مثلهم لاشتريت الشارع اللى أنا ساكن فيه.
عبدالحليم: لأ.. أنت متعرفش.. ولو كتبت زى أغنية "جبار" فلن أناقشك فى أجرها!
فكتب الأبنودى رائعته "مشيت على الأشواك" والتى تقول :"مشيت على الأشواك وجيت لأحبابك
لا عِرفوا إيه ودَّاك .. ولا عِرفوا إيه جابك ..رميت نفسك فى حضن .. سقاك الحضن حزن ..حتى فى أحضان الحبايب .. شوك شوك يا قلبى .."
الأبنودى كسب التحدى وحصل على أعلى أجر فى أغنية، وعبدالحليم كسب أغنية صارت واحدة من أبدع الكلاسيكيات.
منذ بدايتهما معا، لازم الأبنودي حليم كثيرا، وقضيا معا أوقاتا هامة في حياة كل منهما، فكان بيت حليم مفتوحا دائما للمثقفين والملحنين والشعراء والصحفيين، يجتمعون على مائدة، كان ثمار نجاحهم تأتيهم في حينه، حيث كانوا يرتجلون في جلساتهم ويكتبون أغانيهم.
يحكي الأبنودي عن أغنية "الهوى هوايا"، التي أغراه حليم باستكمالها بعد أن قال له مطلعها ضاحكا، وأعجبت حليم الذي اعتبرها أغنية، ووعده بمكافأة إذا استكملها، وقد كان، ألفها الأبنودي ولحنها بليغ في نفس الوقت، وأصبح المقطع الصغير أغنية في دقائق.
ثنائية حليم والأبنودي، علاقة فنية توجها عذب صوت الأول وثورية الثاني، كانت الأغاني الوطنية بطلة حكايتهما، حلفا بسماها وترابها، وقدموا "ابنك يقولك يا بطل"، وظلا رفيقان رغم الظروف التي كانت مصر تعانيها وقتها.
اجتماع الأصدقاء داخل منزل حليم، سمعوا جميعا خطاب التنحي، أحمد رجب والطويل وبليغ ومجدي العمروسي وحليم والأبنودي، دفعتهم الصدمة للهرولة إلى الشارع مع ملايين المصريين، كي يطالبوا عبدالناصر بالتراجع عن التنحي.
دب اليأس في قلوب الجميع بعد النكسة، لكن كيف لفنان أن ييأس وسلاحه صوته، ذهب حليم للأبنودي وقال له :"إحنا هنقعد كده من غير أغاني"، فرد عليه "لو عملنا أغنية مفيهاش إننا دخلنا حرب وانهزمنا، هنتضرب بالجزم"، فضحك حليم وسخر قائلا: "طيب ما تعمل، أنت مش عاملّي ثوري وبتدخل السجن، ولما ييجي أوان الثورية تطلع مش ثوري"، فأعطى الأبنودي لحليم قصيدة كتبها قبل النكسة.
"عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر، وعشان نتوه في السكة تاهت من ليالينا القمر، وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جانا نهار مقدرش يدفع مهرها" فرح حليم بقصيدة الخال، واتصل ببليغ حمدي فورًا، ليجتمع الثلاثي ويحضروا موال "النهار"، ومع بروفات الأغنية راودت حليم الأحلام بغنائها على أكتاف الناس في ميدان التحرير، دب الأمل في النفوس بهذه الأغنية، وأحبها ناصر شخصيا، حتى أنه كان يتصل برئيس إذاعة صوت العرب ليسأله عنها، وحين قرر حليم أن يغني أغاني عاطفية أثناء النكسة، انسحب الأبنودي واعتذر له، فاتجه حليم لمؤلفين آخرين، فلم يكتب الأبنودي لحليم سوى 3 أغاني عاطفية فقط، قال عنهم حليم: "الأبنودي كتبلي الأغنيات دي رشوة عشان أفضل أغنيله الأغاني الوطنية".
غاص الأبنودي لسنوات في بحر السيرة الهلالية، تنقل خلالها بين البلدان، ولم يلتق حليم به سوى بعد نصر أكتوبر، فعادا ثانية وقدما "صباح الخير يا سينا"، إلا أن مرض حليم دفعه للسفر والعلاج، ودعه الأبنودي الوداع الأخير دون أن يعلم أنه لن يلتقيه ثانية، فما كان من حزن الأبنودي سوى أن رثاه قائلًا: "فينك يا عبدالحليم، كتبت سطرين بس كنت حزين، أدّى ورقتي لمين، فينك نغنّي تاني موال النهار، يا صاحب الرحلة ف طريق الشوك، انت ممُتّش هما شِبْعوا موت".
ولعل الأبنودى الشاعر الوحيد الذى لم تتضمن دواوينه نصًّا واحدًا من أغنياته، فهو يرى أن القصيدة ملكه وحده لا شريك له فيها، أما الأغنية فيشاركه فيها المطرب والملحن والموزع، وكم من كلمات تغيرت استجابة لدواعى اللحن والصوت.
لكن رغم ذلك يظل عبدالرحمن الأبنودى واحدا من الذين غيَّروا شكل الأغنية، فقد أضاف إليها لغته، ومفرداته، وطريقته، وأفكاره، حتى صار البعض يقول إن الأغنية قبل الأبنودى شىء وبعده شىء آخر.