آخر دردشة للأبنودي مع "دوت مصر": من أين يأتي الشعر؟
التقى "دوت مصر" قبل فترة بالراحل عبدالرحمن الأبنودي ليسأله من أين يأتي الشعر؟ وعن سر الإبداع وما الذي يميز اللحظة التي يمسك فيها بقلمه ليكتب أجمل قصائده عن حالته الآن، وعن حالة أخرى يتأقلم فيها مع الضجيج والضوضاء؟
الشاعر الكبير الأبنودي استقبل سؤال "دوت مصر" بلطف وابتسم ليبدأ في الكلام واصفا حالته الإبداعية قائلا: "الإبداع عملية شديدة التعقيد؛ فعلى الرغم من وجود كتابات عديدة، حاولت رصد ملابسات، وخلفيات عملية الإبداع، فأصابت كثيرا، وأخطأت أيضا كثيرا، فإن كل مبدع يعبر عن حالة شديدة الخصوصية".
وتابع: "إذا ما حاولت رصد لحظة الإبداع، أو حالتي الشعرية، أجد أنها عفوية، فأنا لا أعرف متى يأتي الشعر، أو متى يكون الإلهام، لذلك فأنا أؤيد فكرة أن الكتابة تلقائية باطنية"، مضيفا: "لو أن الشعر يأتي بقرار عقلي؛ لما رفعت رأسي عن أوراقي، ولمكثت أكتب بقية العمر، حتى أرحل، ولكن المشكلة تكمن في أن الإبداع، كائن أسطوري مخيف ومسيطر، وهو أقوى من كل مبدعيه".
وقال الأبنودي: "ذلك الكائن يكون في الشعر خاصة أكثر هيمنة واستقلالية، بمعنى أنني لا أعرف متى تأتيني القدرة على الكتابة؛ فلقد مرت لحظات تاريخية وإنسانية عامة وخاصة، تمنيت فيها، بل حاولت جاهدا، أن أكتب شيئا؛ ولكني فشلت فشلا ذريعا".
واستطرد: "وعلى الجانب الآخر أجدني كثيرا ما أتعجب من تلك اللحظات، التي ينفتح فيها بحر الإبداع، بحيث لا يمكن إغلاقه.. فالشعر يفتح البداية السماوية بمفرده، و يغلقها بمفرده، إن لحظات الإبداع تتركنا حيارى؛ بين واقعنا، وحالتنا الشعرية، فنتعجب من كوننا "نحن" في صورتنا الأرضية والبدنية، وفي ظل روتين حياتنا اليومية الرتيبة، التي تغلف من يسمى بعبد الرحمن الأبنودي، تأتي علينا لحظات؛ لنعيش التدفق الشعري والإبداعي، وعندها نشعر بالدهشة مما يسكن دواخلنا ولا نعرفه، وتلك الدهشة تجعلنا أول المتأملين، والمستقبلين للقصيدة، وهي نفس الدهشة التي يشعر بها الجمهور حين ألقي أمامهم تلك القصيدة".
وأكد الأبنودي أن هناك أمرا غامضا يقف خلف العملية الإبداعية، شبه غيبي، وهذا هو ما دعا أجدادنا القدامى، إلى تسميته بالوحي، أو بشيطان الشعر، وقال "أنا أسميه نوعا من الإلهام والتوافق بين الذات، والموضوع بداخل المبدع".
وأكمل: "ومن العسير على الشاعر أن يرصد تلك اللحظات، فقد سألت نفسي كثيرا متى أبدع؟ هل وأنا جائع، وأنا مفلس، وأنا غني، وأنا شبعان، وأنا في غربة، أم عندما أعود للوطن، وأنا بمفردي تماماً، أم عندما أكون في قلب الضجيج، وفي النهاية وجدت نفسي قد أبدعت في كل تلك اللحظات، وعجزت عن الإبداع أيضًا في مثل تلك اللحظات، رغم أمنيتي، ورغبتي في الإبداع".
واختتم: "إذن تلك العملية الكيميائية التي تتم في دواخلنا، والتي تصنع هذا الشيء المعجز، الذي يخرج منا في صورة الإبداع، ولا نستطيع أن نصنعه إراديا هو شيء يدعو للعجب. ولأننا لم نرصده بعد؛ فنحن نطلق عليه أسماء مثل؛ الوحي، والإلهام، وشيطان الشعر، إلى آخر تلك المسميات. ولكن أيا كان هذا المعجز، وحيا أو حتى شيطانا، فنحن نتمنى أن يسكن عقولنا، وقلوبنا، وماكينة الإبداع بداخلنا حتى لا نصمت أبدا".