الشعر العربي لا يخلو من الخمر والكأس
لم تنل الخمر ومجالسها في الشعر الغربي، الحظوة التي نالتها في الشعر العربي، ولعل ذلك يرجع لسببين، الأول: تحريمها في الإسلام، والتشديد على عقاب شاربها في آيات متعددة، والأمر الثاني يرجع إلي شيوع اللهو والغزل في المجتمع العباسي، وذلك في القرنين الثاني والثالث للهجرة.
بالإضافة إلى أن الشاعر الغربي لا يشكو من عقدة اللوم على شرب الخمر من أبناء مجتمعه، وليس من همه أن يتحدى الناس بالشراب، لأن بيئته لم تحرمها، ولم تكن كتلك البيئة التي عاش فيها أبونواس، أو البيئة التي عاش فيها الخيام، حيث ظهر شعر الغزل والتغني بالخمر واضحا في الشعر العربي في ذلك الوقت.
غناء وخمر
يتحدث شوقي ضيفا في كتابه "الفن ومذاهبه" عن غرق الناس في المجتمع العباسي، في القرنين الثاني والثالث للهجرة، إلي آذانهم في الحضارة الفارسية المادية، وما يطوي فيها من غناء وخمر، وذلك ظهر في شكل ثورة عارمة علي جميع التقاليد العربية.
ومن أشهر الشعراء الذين تغنوا بالخمر ومجالسها، أبونواس وأبوالعتاهية والحسين بن الضحاك، حتي ظهر عنهم ذلك النوع من الشعر وبعد ذلك العصر بقرنين من الزمان، ظهر عمر الخيام في نيسابور عاصمة خراسان، واشتهرت رباعياته بمدح الخمر ودنانها وصفاء لونها ومجالسها وشاربها، ولكن علي طريقته، التي اختلفت عن طريقة الحسن بن هانئ أو أبي نواس كما كان يلقب، فأصبح لكل من الشاعرين مذهبه أو مسلكه في ذكر الخمر في الشعر، حتي أقر النقاد بمذهبين للتغني بالخمر في الشعر العربي، هما: النواسي، نسبة لأبي نواس، والخيامي، نسبة للخيام
وهكذا أخذت الخمر الحظوة في الشعر العربي، فهذا أمير الشعراء أحمد شوقي، ينظم فيها أجمل بيت قيل في وصف صفاء الخمر: "خف كأسها الحبب.. فهي فضة ذهب"، وله قصائد طوال في وصف مجالسها، حتى أطلق على منزله اسم: "كرمة بن هانئ"، تخليدا لخمريات الحسن بن هانئ أو أبي نواس، وذلك لإعجابه بشعره فيها، ولتخليد ذلك النوع من الشعر في الأدب العربي.
وجاء محمود طه وهو أحد رواد مدرسة التي أرست أسس الرومانسية في الشعر العربي في الخمر، لينقل الخمر الى الشعر العربي المعاصر ببيته في قصيدة الجندول: "مر بي مستضحكًا من قرب ساق.. يمزج الراح بأقداح رفاق"، ووصفها بالنور المذاب في "ليالي كليوباترا": "أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب"، وأيًا كان سلوك الشاعر العربي في وصف الخمر، خيامًا أو نواسيًا، لا نستطيع أن ننكر الدور العظيم الذي لعبته الخمر في إثراء الشعر العربي.
أحاديث طريفة
وقد حدثنا شهاب الدين النويري في "نهاية الأرب " أحاديث طريفة عن الخمر وأسماءها وأخبارمن اشتهر بها ولبس ثوب الخلافة بسبها وما قيل فيها من جيد الشعر وما قيل في مبادرة اللذات وما وصفت به المجالس وغير ذلك من هذه الطرف التي تصور لنا المجتمع العربي ومنهم "الوليد بن يزيد" وقد اشتهر بإدمانه الخمر حتى قيل إن أحسن ما في شعره "خمرياته" فقد عدّ بها إماما وقد تأثر بشعره أبو نواس واعتبره المثل الأعلى في قول الشعر ومما يروى عن الوليد، وهذا من اتهامات خصومه أنه اتخذ لنفسه في قصره بركة من الخمر كان يلقي نفسه فيها اذا طرب، ومن شعره الذي يصور نفسيته أجمل تصوير قوله:
خُذوا مُلكَكُمُ لا ثَبَّتَ اللَهُ مُلكَكُم .. ثَباتاً يُساوي ما حَييتُ قِبالا
ذَروا لِيَ سَلمى وَالطِلاءَ وَقَينَةً .. وَكَأساً أَلا حَسبي بِذلِكَ مالا
أَبالِمُلكِ أَرجو أضن أُعَمِّرَ فيكُمُ .. أَلا رُبَّ مُلكٍ قَد أُزيلَ فَزالا
وقد اقترن ذكر الأعشى الكبير "ميمون بن قيس”بشعر الخمر، فعدّوه أشعر شعرائها بين الجاهليين. أطال الأعشى في شعر الخمر وفصّل، وافتنّ في وصفها ووصف بيوتها وتصوير اثرها في النفس، وقدّم لنا صوراً دقيقة رائعة لمجالسها في بيئات منوعة متباينة، بعضها حضري مترف، وبعضها ريفي ساذج، واتسمت خمرياته بالسهولة والسلاسة والخلاعة وتدفق العاطفة، وكان موفقاً في اختيار القوالب الشعرية التي تناسب الفن.
يقول عنها في إحدى قصائده
وَكَأسٍ شَرِبتُ عَلى لَذَّةٍ وَأُخرى تَداوَيتُ مِنها بِها
لِكَي يَعلَمَ الناسُ أَنّي اِمرُؤٌ أَتَيتُ المَعيشَةَ مِن بابِها
كُمَيتٍ يُرى دونَ قَعرِ الإِنى كَمِثلِ قَذى العَينِ يُقذى بِها
خمريات من الأندلس
كانت الخمريات أكثر فنون الشعر انتشارا بين شعراء الأندلس، وكانت عادة الشرب أن يجتمعوا على الكؤوس في البيوت أو الرياض أو على ضفاف الأنهار، كالوادي الكبير وإبره. ولم تكن مجالسهم مجرد اجتماعات للشراب، وإنما اجتماعات أدبية شعرية كذلك.
وكان المجلس ينقضي بين تقارض الشعر وارتجاله، يتخلل ذلك – بين الحين والحين – شدو جارية مغنية يصاحبها عزف العود والطنبور والقيثارة، وتتوزع أحاسيس السُمّار بين زهر الأحلام وشطحات السكر ومشاعر الهوى".
ومن شعراء الأندلس الذين كتبوا للخمر "شهاب الدين العزازي، ابن سناء الملك، يحيى القرطبي، المعتضد بن عباد، يحيى الغزال، اين حيان الغرناطي وغيرهم".