التوقيت السبت، 02 نوفمبر 2024
التوقيت 11:20 م , بتوقيت القاهرة

البحر الميت

لا أدّعي أن يومي يبدأ قبل الكثيرين، فعندما أنزل من بيتي ألمح وجوهًا كثيرة في طريقها مثلي إلى محطة توقُّف الحافلات، لنجد الكثيرين أيضًا ممن بدأ يومهم بالفعل. ثم تبدأ رحلة كل يوم المعتادة التي تستغرق حوالي الساعتين حتى أصل إلى مقر عملي. في أول الأمر كانت الساعتان تمثلان وقتًا طويلاً، ثلاث حافلات، أربع سجائر (واحدة فور نزولي من المنزل، وواحدة بعد كل حافلة إلى أن أصل)، وحوالي عشرين دقيقة مشيًا حتى خط النهاية.


وككل شيء، مع مرور الوقت أصبحت رحلة الوصول إلى العمل تمر بشكل أوتوماتيكي، بل في كثير من الأحوال أصبحت تمثل لي امتدادا لفترة نومي، حيث كل من حولي أشباح، وبالكاد أستفيق في الحافلة الأخيرة.


عامان على هذا المنوال، كان كلُ شيء عاديًا حتى الأمس.


بالأمس وبينما أنا في حُلمى الثاني، أقصد الحافلة الثانية، أرسلت لي زوجتي رسالة من خلال تطبيق "الواتس آب"، الرسالة تقول "اقرأ دي!" ورابط لصفحة خارجية.


فتحت الرابط ليحيلني إلى مقال على دوت مصر بعنوان "عجوز تحت الثلاثين".
شرعت فى القراءة فى ترقب،
ثم فى صمت،
ثم فى وحدة،
ثم في فراغ.


الحافلة المزدحمة أصبحت فجأة خاوية. كان المقال يمثل صرخةً مدوية لزوجة تشعر بالعجز قبل أوان العَجز، لقد سمعتُ الصرخة، لكنّها لم تكن صرخة زوجتي! كانت صرختي أنا. وكأنني أسمع صرختي قبل أن أصرخها.


ثلاثة أعوام، هي عمر زواجنا، تمت في فبراير الماضي.


تخرجتْ في كلية الحقوق عام 2010، وأنهيت فترة تجنيدي الإجبارى في أول 2012 لنتزوج بعدها بأقل من شهر. كنت أعمل بينما أدرس في الجامعة، وتخرجت في كليةٍ لا أعلم أصلاً لم التحقتُ بها (بخلاف المجموع طبعًا)، أصبحتُ عندما أتذكر أنني درست "الحقوق" أتذكر راقصة مشهورة وهي تضحك ضحكة خليعة في فيلم عربي قديم. 


ثم فترة خدمة عسكرية شديدة اللهجة عصيبة المزاج، يقولون إنها ضرورية لتقوية عصب الرجُل، وكأن فيما قبلها وما بعدها كنّا نعيش في الرغد ناعمي اليدين فكان ينقصنا تلك الفترة حتى "نسترجل".


غيّرت وظيفتي مرة مضطرًا، وأفعل المستحيل حتى لا أضطر لذلك ثانية. ثلاث سنوات أجري، ألهث، أتنازل، حتى أصبحتُ لا أعرفني، لقد ذُبتُ في عرقي ولم يتبق منّي إلا ملح مترسبٌ على جلدي.


يقول عنك كاتب المقال إن حياتك مليئة "بالمبامبرز"، فأبلع غصة في حلقي وأقول في سرِّى فلتحمدي الله أنك تغيرين هذه الحفاظات لأطفالك، فكم في الحياة من حفاظات لو تعلمين. أنتِ تصرخين، وأنا أتمنى أن أكون شخصية في قصة يقرأها شاب ثلاثيني، يمَلُّ منها سريعًا فيطبق دفتي الكتاب على فأموت خنقًا وسط الكلمات.
إن كنتِ تصرخين، فأنا غير موجود.
-------------------------------------
عزيزي قارئ رسالة زوجته، الذائب في الهموم، الحاسد زوجته على صرخةٍ لا يستطيع أن يصرخها، وله في ذلك الحق.


يصب نهر الأردن في البحر الميت، ذلك البحر المنغلق الذي ليس له متنفس، فتتبخر المياه منه وتزداد ملوحته إلى أن أمات كل ما فيه، وانتحر. صديقي البحر الميت، ليس الآن وقت المحاسبة على الاختيارات، أعلم أنني يجب أن أقول لك أنك أنت من اخترت الدراسة في كليتك، وأنت من اختار الزواج في هذا التوقيت وأنت من اختار محاولة الإنجاب لأكثر من مرة، لكني لا أستطيع ذلك، فكيف أحاسبك على بضعة خيارات من قراراتك في ظل جمع من الجبريات في بلادنا العزيزة. لكن، إن أردتُ أن أسألك فسيكون سؤالي:


هل تُريد أن تُكمل حياتك بهذا الشكل؟


إن كانت الإجابة نعم أصبح ما أنت فيه خيارك الحر.. إن كانت الإجابة لا وهو ما أتوقعه، يكون هذا هو الوقت لاختيار ما تريد. 


صديقى العزيز، انظر لصورة زفافك، إن كانت تلك المرأة في هذه اللحظة الآن ليست خيارك وليست هي من تريد أن تكمل معه حياتك، فالأمر أبسط مما تتصور، توقف واتخذ قرارا قبل أن يأتي إليكَ وتُجبر عليه كسابق حياتك. وإن كانت هي من تريد، فهى خيارك بكامل إرادتك، فتعال لنرى كيف يكون ما أردت.


أولاً: أنت الآن بدون متنفس، وبالرغم من أنها الآن تصرخ فستكون نصيحتي الأولى: دعك منها مؤقتًا. انشغل بنفسك. فلنبحث لك عن متنفس. لتحرر أغلال يديك حتى تكون مسؤولاً بحق عن خياراتك وقراراتك. اجلس مع نفسك وفكر فيها، في ظل كل ما أنت مُجبر عليه من ضغوط كيف يمكن أن تكون سعيداً؟! كيف يمكن أن تكون صحيح البدن؟ كيف يمكن أن تنام جيدًا وتأكل جيدًا وتهتم بصحتك البدنية والعقلية والنفسية جيدًا؟


لن أقول لك توصل لحلول، لا، بل توصل فقط لنقاط عريضة. توصل لأول خيط يجعلك تتنفس بعمق أو تبتسم.
والآن، هذه السيدة التي تركناها على جانب عقلك مؤقتًا، أتذكرها؟ عفواً، سأتنحى أنا الآن لتجلس هي محلي، فهي من يفترض أن تتكلم معه الآن في نقاطك العريضة التي استكشفتها بنفسك.


سأقول لك الآن بكل عنف وقوة: تكلم..  تكلم حتى تتخلص من ملوحتك القاتلة وتدب في مياهك الحياة.


أنتما تموتان لأن كل منكما لا يتمتع بحر إرادته، لا تموتان من نقصٍ في المال أو ضيقٍ في الحياة. نعم ستظل الحياة صعبة، وستظل تلهث، وقد تظل هي الأخرى تعاني، لكن إن تحولت المعاناة من إجبار لاختيار أصبحت الأمور أسهل، وأصبحت الابتسامة أقرب. وأصبحت بعد معاناة كل يومٍ تدرك أن من بانتظارك يريد أن يسمعك وتريد أن تسمعه، هو شاحنٌ لبطاريات يوم جديد.


للتواصل مع الكاتب