رسالة التنوير
لم يشأ د."جابر عصفور" وزير الثقافة السابق في أول مقال نُشر له في الأهرام بعد الإقالة المفاجئة أن يكتب عن رد فعله تجاهها.. ويكشف كعادة الوزراء المقالين عن الأسباب الحقيقية للإطاحة بهم، والتي تنحصر في مؤامرة دُبرت للواحد منهم بواسطة بعض المحيطين به في الوزارة المشتاقين إلى المنصب.. أو بسبب نيته المبيتة في العمل على كشف الفساد المستشري، وعزمه على القضاء عليه مما يضر بمصالح الفاسدين ضررًا بالغًا يدفعهم للكيد له حتى يتم إبعاده.
وكان يمكن لـ"جابر عصفور" أن يذكر سببًا ثالثًا يبدو أكثر منطقية، ألا وهو ذلك الصدام الدموي الذي تصاعد في الأسابيع الأخيرة، قبل عزله، بينه وبين مؤسسة الأزهر الشريف.. لكنه تعفف عن الخوض في تفاصيل تلك المعركة الشائكة.. فمن الواضح أنه لا يريد أن يدخل في صدام جديد مع رئيس الوزراء لا جدوى منه.. بل إنه سيجد نفسه متهمًا بإثارة الزوابع عند حضوره وعند انصرافه.. كما أنه سوف يثير بذلك شهية المثقفين الذين يعادونه في الانقضاض عليه وافتراسه.
بدأ الدكتور "جابر عصفور" مقاله بالتأكيد عن رضاه بما أنجزه على امتداد شهور طويلة من العمل المرهق في منصب لم يسع إليه وإنما كُلف به.. وها هو قد حقق للرئيس ما وعده به وأرسل له المنظومة الثقافية الجديدة للدولة مع إحدى عشرة مذكرة تفاهم بين وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات المعنية بالوعي الثقافي للأمة، مصحوبة بإعادة هيكلة كاملة لقطاعات وهيئات وزارة الثقافة؛ كي تدخل العصر الحديث الذي نعيشه بعد أن تحققت إنجازات ما كان يمكن أن تتحقق في أشهر معدودة.. والانتهاء من إقامة صروح ثقافية عديدة منها افتتاح متحف الزعيم "جمال عبد الناصر" في موعده القادم مع احتفالات ثورة يوليو العظيمة .
ويطري نفسه مؤكدًا في زهو وكبرياء، أنه طوال فترة عمله كان حريصًا على الكفاءة والنزاهة، عدوًا للفساد والترهل، نصيرًا لكل فكرة شريفة، منحازًا إلى الشباب بوجه عام.. ويعتز بأنه حفيد "طه حسين" الذي كان وزيرًا لثقافة مصر العظيمة ووريث الاستنارة المصرية والأستاذ الجامعي الذي تخرجت على يديه أجيال عديدة.
ويؤكد أنه كان واعيًا جدًا للدور الحضاري الذي كُلف به.. وهو دور حارس التنوير المصري الذي لا يزال تراثه ممتدًا حوله.. وأنه كان أمينًا على القوة الناعمة المصرية التي تبدأ من "رفاعة الطهطاوي"، ولا تنتهي عند أصغر أحفاد "طه حسين" أو "العقاد" أو "توفيق الحكيم"، فمن يضعه الله في هذا المنصب أو هذه المحنة عليه أن يكون جديرًا بمكانته فلا يضعف أمام فساد.. ولا يخشى من غضبة رجال دين أو من هجوم سلفي كاسح.. إن امتحانه هو صبره على طريق الشوك الذي لابد أن يسير عليه حتى النهاية.. لا اعتبار عنده إلا للدستور والقانون وحماية مصالح الوطن.
ويعرج د."جابر عصفور" إلى لب الموضوع وجوهر القضية التي ينبغي أن تشغلنا جميعًا كمثقفين سواء كنا في موقع السلطة أم لا.. فعدونا الأكبر اليوم هو الإرهاب المتمسح بالدين.. وهو فكر ديني انحرف عن طريق الإسلام السمح إلى ما هو مناقض.. لذلك فترياقه السليم ودواؤه الأوحد هو الفكر.. الذي يعني الثقافة التي يشيعها تعليم عصري وحديث وأجهزة إعلام وطني قوية وحرة تضع المستقبل الواعد فوق حسابات البنوك أو دخل الإعلانات.
وفي موازاة ذلك أجهزة شباب ترعى الدولة عقولهم ووجدانهم.. وأذواقهم.. وخطاب ثقافي وإبداعي حر.. لا يخشى تحريم عقول تنتسب إلى ظلام العصور الوسطى.. ودعم خطاب ديني مستنير هو في النهاية لا ينفصل عن الخطاب الثقافي العام، بل يمضي معه منطلقاً في أفق الحرية التي تعيد فتح أبواب الاجتهاد على مصاريعها في جسارة اجتهاد الإمام "محمد عبده" وسماح الشيخ "محمود شلتوت".
وهكذا فإن د."جابر عصفور الأستاذ الجامعي والناقد المفكر.. صاحب كتاب "نقد ثقافة التخلف" قد آثر قبل أن يمضي في هدوء دون ضجة عائدًا إلى التدريس بالجامعة، حرص على أن يوجز رسالته "النهضوية"، مكررًا طرحها بصرف النظر عن وجوده داخل وزارة الثقافة أو خارجها ليفهم الجميع أنه ليس مجرد موظف إداري برتبة وزير.
كما أن ذكره للإمام "محمد عبده" والشيخ "محمود شلتوت"، وقبل ذلك "رفاعة الطهطاوي" يعني أن الخلفية الدراسية الأزهرية للوزير الجديد لا تتناقض مع رسالة التنوير، فالشيخ الرائد "محمد عبده" الأزهري نادى بثورة إصلاحية كبرى لتجديد الخطاب الديني، وخاض في ذلك معارك ضارية وأثر تأثيرًا عظيمًا في الأجيال التي أتت من بعده.. وفي خطابهم التنويري.. مثل الشيخ "مصطفى عبد الرازق"شيخ الأزهر الأسبق.. وأستاذ ورائد الفلسفة الإسلامية وهو أول شيخ أزهري يتولى وزارة الأوقاف ثماني مرات.. وكان ذو حس أدبي وفني وجمالي ويرتاد صالون "مي زيادة" الفكري.. وسط مجموعة كبيرة من رواد الشعر والأدب والفلسفة مثل "عباس العقاد" و"مصطفى صادق الرافعي" و "لطفي السيد" و"جبران خليل" و"حافظ إبراهيم" وزكي مبارك و"طه حسين".
و"مصطفى عبد الرازق" هو شقيق الشيخ "علي عبد الرازق" الذي ألف كتابه المهم .. "الإسلام وأصول الحكم" بحث في الخلافة والحكومة الإسلامية.. وقد أحدث الكتاب ضجة كبيرة وقتها وحوكم بموجبه محاكمة تأديبية عقدتها مؤسسة الأزهر، وتم فصله من وظيفته من زمرة العلماء؛ لأنه رأى أنه لا وجود للخلافة في الإسلام.. وأيده في ذلك "العقاد" و"طه حسين" الذي يعرف الجميع أنه أزهري تمرد على الأزهر وألف كتابه "العاصفة" و"في الشعر الجاهلي".